عرف الدكتور الشيخ محمد حسين الذهبي، العالم المفسر، وصاحب التآليف النافعة، بمحاربته للبدع والإسرائيليات التى أدخلت وتسللت إلى العلوم الإسلامية، فبددت المفاهيم وأشاعت الفوضى الفكرية ردحاً طويلاً ، واعتبرها البعض مسلّمة من المسلّمَات، ومن خلال هذه الإسرائيليات والبدع والخرافات ، حكم أعداء الإسلام على تعاليم ألإسلام نفسه، وأعتبرها من صميم الدين وأصوله، ولا تعجب من مستشرق ك"لوى ماسينيون" يقف حياته على دراسة وتحقيق أراء وافكار الحسين بن منصور الحلاج، التى أثارت جدلاً كثيراً، وهناك مستشرق أسبانى آخر يدعى "ميجيل أسين بلاثيوس" يقف حياته على دراسة ابن عربى، ونشر آرائه والتركيز على المنحرف منها، وآخر انجليزى يدعى "أدوارد وليم لين" يزور مصر ويستقر بها ويجمع عاداتها وتقاليدها فى كتاب أخذ ردحاً كبيراً من عمره بعنوان "عادات المصريين وشمائلهم" ، ركز فيه على الخرافة والشعوذة، واعتبرها من طقوس الإسلام، وآخرين .. العجيب أيضاً أخذ فئة من النخبة المزعومة لهذه الدراسات فى الاعتبار والعمل على ترجمتها وطبعها من خلال أجهزة الدولة الثقافية، وقد طبقت المناهج العلمية الإسلامية فى تنقية الغث من السمين بواسطة منهج الجرح والتعديل وعلم الرجال، ومناقشة الروايات وترجيح أقواها ، إلا أن بعض العلماء تساهل مع بعض الأمور وحشى كتبه بالإسرائيليات، ولا تعجب معى أن مؤرخاً كالطبرى يردد جانب من هذه الترهات والإسرائيليات مثل حديث الغرانيق ويفرد له الصفحات فى كتبه كالتفسير والتاريخ.. إلا أن الله خص بعض جنوده المخلصين بالزود عن كتابه العزيز، ودراسه علومه وتتبع مناهج المفسرين هو الشيخ محمد حسين الذهبى صاحب الكتاب الحجة "التفسير والمفسرون"، وكتاب "الإسرائيليات فى التفسير والحديث".
وكان الرجل غيوراً على العلوم الإسلامية ويحزن عندما يجد كتب التراث وقد حشيث بالأساطير والخرافات والإسرائيليات ، وعندما ينظر حوله يجد البدع قد انتشرت ووجد من يدافع عنها ويؤيدها ويخترع أسانيد فى صحتها وبعض العلماء يلوذون بالصمت المريب ولا يدافعون عن إسلامهم النقى الذى هو كالمحاجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك ، ومازال الرجل يبذل جهده فى تنقية العلوم الإسلامية مما علق بها ويدلى برأيه الصريح فى البدع وهذا مانجده فى حواره الممتع مع جريدة الأهرام المصرية في يوم الجمعة 19 ديسمبر 1975 ، دحض فيه بدع الصوفية وخرافاتهم، والحق أن هناك بعض السلاطين المماليك قد حاول القضاء على المواليد والسلبيات المصاحبة لها فى القرن التاسع الهجرى، إلا أن الوطأة كانت اشد وقيام المتصوفة بالثورة على هذا القرار وأيدهم فى هذا بعض علماء الدين، وهناك من الحكام من ساعد فى تمكن هذه البدع والترهات كى يشغل الشعب عن مظالمه وشهواته وملذاته وسرقاته، وهم كثر فى تاريخنا الإسلامى، وهناك من العلماء من نجح فى اجتثاث البدع وعبادة القبور، ولنا فى الإمام محمد بن عبدالوهاب المثال الحسن .. الذى استعان بحاكم لديه وعى إسلامى رشيد، فقضى على البدع والخرافات، وكانت الخطوة الأولى للدخول فى إطار اليقظة الإسلامية فى القرن الثامن عشر الميلادى قبيل مجىء الحملة الفرنسية التى استشعرت خطر هذه اليقظة فأتت للقضاء عليها فى مهدها، وقد توفي الشيخ الذهبى وهو يعمل وزيراً للأوقاف في منتصف السبعينيات من القرن الماضي "رحمه الله- إثر تعرضه لحادث أليم . ومن ضمن الأسئلة التي وجهت إليه:
* متى يبدأ إلغاء الموالد ما دام الرأي الصحيح أن هذه الموالد لا يقرها الإسلام ؟ - فأجاب: يحتاج الأمر إلى جرأة ، لأن الذي يتقدم لإلغاء هذه الموالد سوف يواجه بعاصفة قوية جداً من المعارضة من المنتفعين بهذه الموالد والمروجين للبدع والمدافعين عنها.
*الأمر إذن أن البدعة تنتصر على الحقيقة؟ - هو كذلك ، فالعادات إذا استحكمت أصبحت جزءً من عقائد الناس، والعادة يمكن أن تصبح عند الناس ضربا من ضروب العبادة، وهناك جماهير واسعة تتحمس لهذه الموالد، ومواجهتها ليس بالأمر الهين، المسألة تحتاج إلى سياسة حكيمة، وهذا ما نرجو أن نصل إليه حتى نقضي على هذه المظاهر التي تشوه الإسلام.
*إذا كانت الخرافة تنتصر على الحقيقة، فكيف نسكت وكيف نرضى بذلك ؟ - أقول لك قصة مما في كتب التراث الصحيح تكفي لتفهم ما أريد أن أقول: فقد سافر عامر الشعبي، وهو من التابعين، من العراق إلى الشام، وفي طريقه دخل مسجداً، فوجد رجلاً يقص على الناس مجموعة من الخرافات، منها مثلاً أن لله عز وجل صورين يُنفخ فيها يوم القيامة، وبعد انتهاء الدرس قال له عامر الشعبي: كيف نقول هذا، ولله صور واحد وفي القرآن: ((يوم ينفخ في الصور))، فصاح الرجل فيه أمام العامة: يا هذا، أقول لك لله صوران فتقول صور واحد، استكثرت ذلك على الله. يقول عامر الشعبي: فقام الناس يضربونني فما أنجاني منهم إلا أن قلت لهم: والله، إن لله سبعين صوراً.
هكذا تنتصر الخرافة على الحقيقة، وينتصر الضلال على الهدى.