يجتاز عالمنا الإسلامي حاليا مرحلة جديدة من مراحل حياته، يواجه فيها عواصف عاتية، وتيارات متباينة، يثير بعضها ضبابا كثيفا يكاد يحجب الرؤية الصحيحة، ويؤثر في الإدراك الواعي لحقيقة الإسلام وجوهره وقدراته الخلاقة في بناء الإنسان المعاصر على أسس قويمة رشيدة هادية.. وإزاء هذه التحديات يجب أن نتحرك على عدة مسارات لمواجهة هذه التحديات بخطاب تجديدي يظهر بجلاء حقيقة هذا الدين العالمي الحنيف للعالم من ناحية، وينشر المحبة والتسامح وقبول الآخر في مجتمعاتنا. لقد جاء الإسلام لينظم أمور الناس الدينية والدنيوية، ويخلصهم من الأدران والأرجاس التي رانت على قلوبهم عبر عصور طويلة بسبب البعد عن منهج الله الذي جاء به أنبياؤه، والذي من شأنه -في حالة اتباعه وتطبيقه- ضبط حركة الإنسان وسلوكه على هذه الأرض، بل وضبط حركة الحياة كلها، وتنظيم العلاقات الإنسانية على أسس سليمة رشيدة بانية، وإعداد الناس للقاء ربهم يوم القيامة. وعلى الرغم من ذلك فإن البعض من الناس يُوصِد أبواب عقله وقلبه، ويغلق نوافذ آذانه أمام تعاليم الحق سبحانه المُنَظِّمة لهذه الحياة.. وقد نتج عن ذلك ظهور الكثير من المشكلات التي عجزت الفلسفات والقوانين الوضعية أن تجد لها حلولا ناجعة، وما ظاهرة الانتحار والجنون، والاتجار بالنساء، وجنون التسلح، والتفكك الأسري، والشذوذ...إلخ في الغرب منا ببعيد..!! إن الناظر المدقق في تلك المشكلات العالمية يلاحظ أنها ناجمة عن البعد عن المنهج الإلهي، وعن المعايير الدينية الحاكمة للفكر والسلوك والتربية، والتي من شأنها -لو طبقت- أن تحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.. وإذا كانت الظروف الحياتية بكل متغيراتها تفرض أنساقا وأنماطا فلسفية معينة على الثقافات المتوارثة والسائدة في المجتمعات، إلا أنها ما تلبث أن تذوب أو تتلاشى مع مرور الأيام. أما الإسلام بربانية مصدره، فإنه يؤثر في تلك الأنساق الفلسفية، ويتعاطي معها ويحتويها، ويؤثر فيها.. ولما كان التجديد فريضة إسلامية، وسنة متبعة، فإنه يعد في الوقت ذاته تصحيحا لمفاهيم مغلوطة، وتفنيدا لأباطيل شائعة، أسهم فيها بقصد أو بغير قصد -العالم الإسلامي، حين قصر في أداء واجبه نحو الدعوة إلى دينه العالمي الخاتم، وتقاعسه عن التعبير عن ذاتيته بخطاب تجديدي تكاملي وشمولي يراعي المستجدات على الساحة الدولية...!! والتجديد في الإسلام ليس بدعا في الدين بل هو منطلق طبيعي، تمليه النصوص الدينية من جانب، والتطور الحياتي من جانب آخر، تحقيقا لما أختص الله -تعالى- به هذا الدين من صلاحيته لكل زمان ومكان، ومسايرته للتطور وقبوله المستجدات، مع حفاظه على ثوابته التي تضمن له البقاء صامدا شامخا، على مر العصور. وكلها من مقومات وبراهين عالميته وخاتميته ووسطيته وخيريته.. فقد جاء الإسلام من عند الله عز وجل قويا متينا وسيظل كذلك إلى أن يقوم الناس لرب العالمين، وتنبع قوته من ربانية مصدره ومن حفظ الله تعالى له، فهو محفوظ بحفظ الله، ومحروس بحراسة الله سبحانه وتعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9). "ولما كانت أمتنا الإسلامية هي أمة الخير والحق والعدل والنور... تنقل صور الخير إلى غيرها من الأمم والشعوب، معلمة ورائدة.. منطلقة من قوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110) وبهذه العناصر الكريمة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله كنا قادة البشرية ومعلمي الشعوب.. وسنظل كذلك ما أخلصنا لرسالتنا، وقمنا على أمرها دعاة وهداة ومعلمين، ويوم نتوقف عن أداء رسالتنا فلن نستحق هذا التكريم؛ لأننا تخلينا عن دورنا القيادي في الحياة..". ونحن نعرض لآليات تجديد الخطاب الديني خصوصا لغير المسلمين - يجب أن نفرق بين الغرب كشعوب، وبين الغرب كمؤسسات للقرار، فالغرب كشعوب ليس لدينا معهم مشكلة، ولا يجب أن تكون..ويقسم بعض الباحثين "المجتمع الغربي إلى فئات ثلاث: الأولى: فئة العامة من الناس: وهؤلاء يستقون معلوماتهم عن الإسلام من خلال الإعلام، فهم ضحايا التدليس المتعمد والتشويه المدلس من ناحية، ثم هم ضحايا غيابنا نحن المسلمين في الشرق والغرب عن التعريف بالإسلام وعن الحضور والتأثير إعلاميًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وليس هناك ميدان واحد لنا فيه إسهام مؤثر تجاه تعديل الصورة وإنصاف الحقيقة وإنقاذ هؤلاء. والثانية: فئة المثقفين والباحثين والعلماء: وهؤلاء لا يكتفون بما يقدمه الإعلام الغربي عن الإسلام، بل يشكون فيه ويعرفون أن أغلب ما يقدم إنما يصدر عن رؤية كارهة ومغرضة؛ ولذلك فهو في نظرهم يفتقد الموضوعية والحياد، ولهذا فبعض هؤلاء يحرصون على القراءة عن الإسلام، ويبحث عن الكتاب الإسلامي باللغة التي يجيدونها من المصادر المضمونة والقريبة منه –وللأسف الشديد- فلا يجدونه..!! وربما يحاول بعضهم تعلم اللغة العربية حتى لا يقع ضحية الفكر المغشوش والثقافة المسمومة، التي تملأ الأسواق هناك عن الإسلام والمسلمين.. والفئة الثالثة: الغرب كمؤسسات للقرار: وهؤلاء لهم أهدافهم وأطماعهم، ولهم أجندتهم الخاصة، ولهم أيضا رؤيتهم للإسلام والمسلمين، ولذلك فالمشكلة الحقيقية مع هؤلاء؛ لأنهم هم الذين يمثلون الغرب المستغل.. الغرب صاحب مشروع السيطرة والتقسيم والعدوان على الآخرين.. الغرب صاحب منظومة الكذب التي تشوه الآخر وتحط من قدره، وتحاول إشاعة الخوف منه، وتلصق به أبشع الاتهامات، ولا تكف عن الهجوم عليه، واستعداء الشعوب ضده.." كما قال د. إبراهيم أبو محمد في كتابه المكون المعرفي ودوره في توجيه الحضارات ومن هذا المنطلق يمكن أن تنطلق عملية تجديد الخطاب الديني والتعريف بالإسلام في الخارج للشعوب والعلماء والمثقفين والأكاديميين بفاعلية، لاسيما وأن الإنسان الغربي لا زال لديه من رصيد الفطرة ما يمكنه من تقبل الحقيقة إذا عرضت عليه بذكاء وبطرق منهجية جديدة، وقدمت له في صورتها النقية، كما أن مساحة الحرية المدنية تجعلهم يدافعون عن الفكرة التي يؤمنون بها.. لذلك فلابد من التجديد الذي يتعاطي مع شتى الظروف والمتغيرات التي نعيشها ليل نهار.. التجديد الذي ينفض الغبار الذي أثاره بعض الأعداء على ديننا الحنيف، والذي يجلي الحقائق ويظهرها للدنيا كلها. وإذا كان تجديد مضمون الرسالة الدعوية الموجهة للمسلمين وللآخر قد تكلم فيها علماء ومفكرون أفاضل؛ فإن الحديث عن تطوير شكل وأسلوب وطرق عرض هذه الرسالة قد أغفلها الكثيرون، على الرغم من خطورة تأثيرها في ظل عالم يتطور لحظة بعد الأخرى.. كما أن استخدام المنجزات العلمية والتكنولوجيا الحديثة في الدعوة، أصبح ضرورة لازمة؛ لتقريب الفهم وتيسيره على المتلقي -في أقل وقت- في عالم يتسم بسرعة الوتيرة والإيقاع.. ويؤكد رجال الإعلام والاتصال على ذلك، فيقولون: إن الصورة أبلغ من ألف كلمة، وأقوى تأثيرا، وأسرع فهما، وأسعف في الاستدعاء من النصوص والكلام المجرد. لذلك فلابد أن نولي تجديد الخطاب الديني أهمية فائقة. إن الجمود الفكري الذي ساد في بعض حقب التاريخ الإسلامي، قد خلَّف آثارا سلبية على مسيرة الفكر وتطوره وتجديده. وقد ذاق العالم الإسلامي مرارة تلك الآثار سنوات طويلة، وما التطرف والبعد عن الجادة من بعض شبابنا منا ببعيد.. ومن هنا فإننا نؤكد أن نجاح الدعوة الإسلامية والخطاب الديني ونفاذه إلى عقول المخاطبين وقلوبهم ووجدانهم، مرهون بمدى وعينا وتفهمنا لضرورة تجديد هذا الخطاب وبذل الكثير من الجهد في سبيل ذلك، ولن يتأتى ذلك إلا بإعداد الدعاة إعداد يتناسب مع مباشرة مهامهم سواء داخل بلاد المسلمين أو في الغرب.. إعدادا يجعل من كل واحد منهم موسوعة معارف متنقلة، ومجيدا للغات الحية، ومتبحرا في فقه الواقع وإيدلوجيات الدول الغربية وفلسفاتها السائدة، إعدادا يبرز عالمية الإسلام ووسطيته وربانية مصدره.. إعدادا يهتم بالجوهر وبالمظهر معا... وإنها لمهمة جد صعبة، اعتقد أنه لا مناص منها، إذا أردنا الريادة والسيادة والبقاء.. وللحديث بقية.
مستشار الهيئة العالمية لضمان جودة الدعوة وتقييم الأداء ببروكسيل عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.