عندما قامت ثورة 25 يناير أدركنا أننا مقبلون علي اقتلاع الفساد من جذوره وليس رأسه فقط، وإذا لم يكن هذا هو نتاج ثورة هزت العالم فما هي طبيعة هذه الثورة ؟ وما هي أهدافها؟ وبعد مرور عشرة أشهر من اندلاعها إذا بالفساد يزداد انتشارا ويهيمن علي كافة مرافق مصر بل ويزداد شراسة وقوة لأن القوانين التي تبرر له فعله بل وتحميه ما زالت قائمة مع غياب كامل لأي رقيب . ويصعب أن نعدد مظاهر الفساد الذي زاد عن الركب وأصبح يشمل كل الجسم تقريبا، ولا نكون مبالغين إذا فلنا أنه في بعض المواطن تسود شريعة الغاب دون رادع أو محاسب ، فأصبح من الصعب أن تصطحب ابنتك أو زوجتك إلي زيارة طبيب أو قريب حتى لو كان بسيارتك الخاصة ، وحتى لو كان معك سلاح ناري مهما كانت المخالفة أو المساءلة القانونية . صحيح أن الحال الآن أصبح أفضل من سابقه كثيرا جدا لكن الفساد مازال موجودا ، فعندما زرت قريتي فإذا بالأقارب يبلغوني عن قدر الاعتداء علي الأرض الزراعية وعن الرشاوي التي تدفع لتغيير خريطة الكردون لتحويل أراضي أخرى إلي مباني . وأصبح البيع والشراء في الأسواق يحدد سعره من قبل التجار ولا يجرؤ أحد علي السؤال لا الاعتراض فالكل يحيطه البودي جارد ويمتلك السلاح بعد أن انشغل جناحا العدالة . وحتى الحكومة التي تم اختيارها من ميدان التحرير دفعها العوز الاقتصادي لتبرر استمرار قانون الضرائب العقارية مع الوعد بتعديله وهي تعلم أنه كان من بين الأسباب المباشرة للثورة . ومن حظي العسر وأنا في السادسة والستين من العمر أن اضطررت للذهاب إلي المرور لتجديد رخصة القيادة، فذهبت في اليوم التالي مباشرة لانتهاء الرخصة لأني دقة قديمة ألتزم بالمواعيد . وذهبت مبكرا جدا حتى لا أتعرض لطول الطوابير ، فإذا بالموظف يطلب مني العودة إلي المرور السابق لاستحضار شهادة بيانات وليست شهادة مخالفات فقط ، فقلت له أنني جئته ليحدد ما يريد فلم يوضح لي ذلك فرد باستهزاء واستهتار - دون مراعاة سني علي الرغم من أن لي تلاميذ وأبناء كثر بين ضباط الشرطة - أن ما علي هو السمع والتنفيذ . ولم يكن أمامي سوى تنفيذ الأوامر ، ورغم المشقة التي عانيتها فإذ بضابط شاب هو رئيس الوحدة يطيب خاطري بشكل إنساني نادر أزال عني كل ما عانيته، لكنني استشعرت عجزه عن مقاومة الفساد بعد أن ساد . وصادفت آخر يجدد سيارته يزاملني للحظات في طابور العذاب ويسألني هل اللوحات المعدنية التي اتهم فيها رئيس الوزراء السابق ووزير الداخلية السابق وجمال مبارك تباع الآن بسعر أكثر مما حددوه هؤلاء اللصوص ، وهل هناك زيادة تمغة بعد الثورة أو باسمها ؟ ولم أستطع الرد علي سائلي رغم أنه علم مني أنني أعمل أستاذا بالجامعة ، كما لم أجد مبررا لصمتي فقلت له إن القوانين التي حمت الفساد ما زالت حكومة الثورة تعمل بها لسد العجز الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد . وحين اقتربنا من الموظف فإذ به يطلب طوابع تمغة وشرطة وملفات وإكرامية ، ورضخنا لمطالبه فنحن أمام ضرورات تبيح أي محظور ، وعدنا له فإذا به يضع كثيرا من الطوابع في جيبه لأنه لا لزوم لها ، ونظر إليّ رفيقي دون أن يسأل لأنه فقد الثقة في قدرتي علي رد يتوافق مع كوني كادر جامعي . عدت إلي البيت مجهدا وحزينا مما رأيت بعد يومين من الإهانة والعذاب فإذا بابني يدخل علي ثائرا وقد انتظرت أن يطيب خاطري ، فسألته عن السبب فذكر لي أنه كان في إحدى مكاتب الشهر العقاري لنقل ملكية سيارته فطلب منه أحد الموظفين الإكرامية فرفض ابني لأنه من شباب الثورة ، فتحجج الموظف ومعه بعض زملائه بأن هناك كشط في التوكيل ولا يصلح . فهدأت أنا من ثورته وطلبت منه أن يرضي بالضرورات في زمن المحظورات وأن يعود في اليوم التالي . فنفذ ما طلبته فإذا بالتوكيل بقدرة قادر سليم وواضح ولا تشوبه شائبة وانتهت مهمته في زمن قياسي وعاد إلي البيت ولكن نظر إلي نفس نظرة رفيقي السابق في طوابير المرور. وحاولت التنفيس عن ضيقي بما آلت إليه أوضاعنا لمن يزورنا فإذا بكل واحد يطرح أمرا أشد إثارة من مفتشي ومهندسي الأحياء والتموين وغيرها من مرافق الدولة ، ويعلق الجميع علي ما يسمعونه منهم " سلملي علي الثورة " أو " اللي سرقوا مليارات نفدوا بها فهي جات علينا يابو خمسين ومائة ، هم سايبينا ناخد عشان مانعملش إضرابات فئوية ، البلد تعبانة وسايبينا ناكل بعض ..... أدركت بيقين أن الثورة الحقيقية لم تبدأ بعد فالمسألة ليست في رأس الفساد بل في القوانين التي تعين عليه وتحميه ، الثورة الحقيقية هي ثورة من الداخل تطهر النفس وتزكيها " ولابد أن نعاود التفكر في قول خالق البشر " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " .