أمس نشرت صحيفة الأهرام تصريحاً لنبيل زكى عضو المكتب السياسى لحزب التجمع اليسارى وذلك على خلفية مشكلات تواجه قوائم تحالف الكتلة المصرية التى يشارك فيها الحزب قال فيها إن التجمع دفع ثمنا غاليا بسبب هذا التحالف وأنه لو كان هناك المزيد من الوقت لدخل التجمع الانتخابات منفردا بعيدا عن الكتلة المصرية. وبغض النظر عن القوائم ومشاكلها فإن حزب التجمع واليسار بصفة عامة لم يدفع الثمن الباهظ الذى أشار إليه اليوم بل إن الأزمة التى يحياها اليسار المصرى امتدت طيلة العقود الماضية ولم تكن ثورة 25 يناير إلا لحظة كاشفة عن عمق الأزمة التى يحياها اليسار فى مصر فقد ظلت مصر ما قبل 25 يناير بيئة مواتية لليسار المصرى للهروب من استحقاقات واجبة وتساؤلات مشروعة ... إذ مثلت البيئة السلطوية الضاغطة ملاذاً آمناً لليسار للهروب من استحقاقات السؤال الأهم حول المشروع اليسارى من حيث الفكرة النظرية وآليات التطبيق العملى ومضامين الخطاب السياسى . كان اليسار بوسعه أن يكون أحد الروافع الجيدة للعمل السياسى فى مصر ولكنه تقاعد عن هذه المهمة لحساب مهام أخرى أثرت عليه سلباً وجرته للخلف .. والتى أرى أن أسبابها الرئيسية تكمن فى الآتى : 1. ارتماء اليسار فى أحضان السلطة اللهم إلا القليل الذين احتفظوا لأنفسهم بمسافة مناسبة بعيداً عن السلطة الحاكمة وقد بدأ هذا الارتماء بداية من ستينات القرن الماضى إثر التحالف الشهير بين اليسار وبين النظام الناصرى ومن خلاله بدأ اليسار يتماهى فى المشروع الناصرى معطلاً كل قدراته الفكرية والحركية ، وإذا كان عصر السادات قد شهد توتراً ملحوظاً ما بين اليسار والسلطة الحاكمة فإن عصر مبارك سرعان ما شهد هرولة يسارية للارتماء فى أحضان السلطة ويكفى أن نشير هنا إلى الدور الذى قام به وزير الثقافة الأسبق / فاروق حسنى فى تدجين اليسار بإدخاله إلى " الحظيرة " واستخدام جوائز الدولة فى إتمام مهمة التدجين . هذا الارتماء دفع اليسار ثمنه غالياً من شعاراته الثورية ومقولاته التقدمية التى أصبحت محل تشكيك من كثيرين . 2. عجز اليسار عن إنتاج " خطاب " متصالح مع معتقد المجتمع وقيمه وثوابته وإصراره على احتضان جميع النماذج المتصادمة مع عقيدة الأمة وثوابتها بل والعمل على ترويج منتجها الثقافى على حساب دافعى الضرائب المصريين والإغداق عليها بالمنح والعطايا .. كل هذا أدى إلى تحويل الخطاب اليسارى إلى خطاب " نخبوى " منغلق ، بعد أن كان خطاباً ملتحماً بالعمق الجماهيرى ومتماساً مع قضاياه وهمومه . 3. عدم قدرة اليسار على إجراء مراجعات حقيقة تشمل مسيرته الفكرية والحركية لاكتشاف مواطن العطب ومواضع الخلل ، وهذه المراجعات كان يجب أن تتم فى وقت مبكر عقب سقوط الاتحاد السوفيتى ولكن اليسار استعاض عنها باللجوء إلى " حضن " السلطة الدافىء ، ولم يستفد اليسار من قيمة حركة " المراجعات " التى قام بها التيار الإسلامى الجهادى والتى منحته قبلة الحياة من جديد إذ كان يجب على اليسار إدراك أن مراجعاته الذاتية هى قبلة الحياة التى يحتاجها لمواصلة مسيرته . 4. خلو ساحة اليسار الفكرية من قامات فكرية تشرأب إليها الأعناق من عينة محمد سيد أحمد ، ومحمد عودة ، ونبيل الهلالى ... إلخ هذه القامات التى جمعت بين الألق الفكرى والنقاء الأخلاقى فلا غرو أن حازوا تقدير وإعجاب مخالفيهم قبل مناصريهم وكانوا بمثابة رمانة الميزان فى علاقة اليسار بغيره من القوى الأخرى ، ولكننا عشنا إلى زمن رأينا فيه قيادات يسارية كبرى رضت لنفسها أن تلعب دور العراب فى الصفقات " الحرام " بين النظام السلطوى السابق وبين معارضيه مقابل مقعد فى مجلس لا تأثير له فى الحياة السياسية المصرية ، ومنهم من لعب بجرأة يحسد عليها دور العراب لحملة التوريث وأراق من أجلها ما تبقى له من حياء فكرى . 5. حالة التحول التى شهدها اليسار مع سقوط الاتحاد السوفيتى والتى رأينا من خلالها وجوهاً يسارية عتيقة تخلع ثوبها اليسارى بلا حياء وترتدى ثوب " الليبرالية " ولا تجد غضاضة من الحديث عن " الحريات " وبنيتها الفكرية وممارستها العملية راسخة القدم فى الإقصاء السياسى فكنا أمام مشهد عبثى مشوه لم نستطع هضمه أو تمريره . 6. ارتكان الكثير من قيادات اليسار على حائط السلطة دون الاهتمام بالنزول إلى الجماهير ومعايشة همومهم وقضاياهم والتعرف عن موطن " الوجع " ، والمفارقة العجيبة أن يتحول اليسار من تيار متداخل فى المجتمع وطبقته العمالية وشريحته الوسطى إلى تيار مستعل بخطابه على الجماهير حتى فقد مناطق التأييد التاريخية فى الأوساط العمالية والطلابية . ومن هنا فإن قدرة اليسار على البقاء تتوقف على قدرته على إحداث حالة من " المراجعات " الأمينة والصادقة بعد أن تآكلت أجزاء كثيرة من مشروعه ودخول قوى أخرى على ذات الخط السياسى المميز فلم يعد مفهوم " العدالة الاجتماعية " وقفاً عليه بل ظهرت أحزاب على مرجعية إسلامية تنازعه ذات المفهوم وتتبنى جزءاً مهماً من خطابه . فهل يصمد اليسار أمام تحدى البقاء أم يخلى الساحة طواعية للقوى السياسية التقليدية والصاعدة ؟ [email protected]