كنا نأمل أن تستفيد الداخلية من أخطائها في السابق، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع ثورة 25 يناير، لكنها للأسف لم تتعلم من أخطاء الماضي، ولم تتوقف عن ممارساتها التي فجرت غضب المصريين، وجعلتهم يثورون عليها قبل أكثر من 4سنوات، فالوضع ازداد سوءًا عن ذي قبل، وأصبحت الانتهاكات في مراكز الاحتجاز داخل أقسام الشرطة والسجون أمرًا عاديًا، فلايكاد يمر يوم دون أن نسمع عن سقوط ضحية جراء تعرضه للتعذيب، أو بسبب ظروف الاحتجاز اللاآدمية، أو التعامل بقسوة مفرطة عند القبض على شخصيات معارضة تصل إلى حد التصفية الجسدية، أو من خلال التصدي بالرصاص الحي للمظاهرات المعارضة للنظام، كل هذا يضر بسمعة الشرطة ويجعلها في موضع اتهام دائم، ويفقدها تعاطف الكثيرين الذين استبشروا خيرًا بعودتها إلى الشارع بعد 30يونيو، بعد أن تخلت عن ممارسة دورها في حفظ الأمن، عقب ثورة 25يناير، عقابًا للشعب الذي ثار عليها وهاجم أقسام الشرطة ومديريات الأمن، فقد كان شعارها وقت حكم الرئيس محمد مرسي: "إننا في إجازة لمدة 4سنوات"، أما وقد تحقق لها التخلص من شوكة الإسلاميين في 30يونيو، ورفع المصريون رجال الشرطة فوق أعناقهم في ميدان التحرير، بعد أن كانوا شركاء في التخلص من حكم "الإخوان" فلم يعد لهم أي حجة، لكن عودتها ارتبطت بمواجهة حركة المعارضة القوية المتنامية في الشارع، والتي استعانت في ردعها بما يسمون إعلاميًا ب "المواطنين الشرفاء"، وجاءت المواجهة الأعنف في تاريخ مصر الحديث في فض اعتصام "رابعة" و"النهضة"، وقبله أحداث "الحرس الجمهوري" و"المنصة"، وما تلاه من "أحداث رمسيس" و"سيارة الترحيلات"، وغيرها من مصادمات انتهت بسقط مئات القتلى، كان ذلك تدشينًا لعودة الشرطة في صورة عنيفة، إلا أنها مع ذلك اكتسبت تأييدًا بين قطاع كبير من المصريين المؤيدين للسلطة الحالية، وخاصة بعد أن فقدت الشرطة الكثير من رجالها على أرض سيناء، وفي هجمات عدة على مراكز شرطية بالقاهرة والمحافظات، لكنها في النهاية عادت أقوى مما كانت، وعادت انتهاكاتها بصورة أبشع عما كانت في السابق، ولم يحل التعاطف الإعلامي الواسع معها في التعتيم عليها، بعد أن جرى تسليط الضوء عليها عبر قنوات المعارضة بالخارج ومواقع التواصل الاجتماعي، وكان الحدث الأبرز قبل أسابيع مع مقتل المحامي الشاب كريم حمدي نتيجة التعذيب أثناء احتجازه داخل قسم شرطة المطرية، والذي أحالت فيه النيابة اثنين من ضباط جهاز "الأمن الوطني" إلى المحاكمة، ويمكن أن نعتبر هذا الحادث نقطة فارقة في التعامل مع انتهاكات الداخلية خاصة داخل أقسام الشرطة، خاصة وإنها المرة الأولى التي تحيل فيها النيابة ضابطي شرطة في جريمة من هذا النوع، فيما يبدو أن انتهاكات الداخلية أصبحت عبئًا ثقيلاً على النظام، بعد نحو عامين من وقوفه وراءها ومساندته لها بقوة في استخدام سياسة "العصا الغليظة" ضد المعارضين، لكن يبدو أن تزايد الانتهاكات ووفاة الكثير من الحالات تحت التعذيب وضعها في مأزق، وأثار مخاوفها من تكرار سيناريو ثورة 25يناير، وهو ما يرجح أنه السبب وراء تسليط الضوء على الانتهاكات داخل أقسام الشرطة، خاصة وبعد أن نشرت صحيفة "المصري اليوم"، المعروفة بدعمها للسلطة الحالية، ملفًا من عدة صفحات بعنوان "ثقوب في البدلة الميري"، حول انتهاكات وزارة الداخلية في حق المواطنين، والذي خلق ردود فعل واسعة جراء ما كشفه عن صور واسعة للانتهاكات والممارسات البشعة لجهاز الأمن، ما دفع الوزارة لإصدار بيان تنتقد فيه ما نشرته الصحيفة، في الوقت الذي استدعى فيه "الأمن" الوطني رئيس تحرير الصحيفة محمود مسلم، والصحفيين المشاركين في إعداد الملف للتحقيق، دون أن تكلف الوزارة خاطرها تشكيل لجنة للتحقيق فيما أثير حولها، على الأقل ذرًا للرماد في العيون، وحولت المسألة إلى خلاف شخصي مع الزميل يسري البدري الذي أشرف على إعداد الملف، كما سبق وشنت صحيفة "الدستور"، هجومًا على الداخلية في أعداد متتالية، قبل أن تلقي القبض على الصحفي الذي نشر تلك التقارير، المفاجأة الأكبر كانت في تحقيق نشرته صحيفة "الأهرام" كبرى الصحف المملوكة للدولة على نصف صفحة موثقًا بالصور في عددها الصادر مطلع الأسبوع الجاري، تحت عنوان "في أقسام الشرطة.. من لم يمت بالتعذيب مات اختناقًا"، وهو ملخص لجولات فريق من النيابة العامة على أقسام للشرطة بالقاهرة والجيزة، ومن بينها قسم شرطة مصر القديمة، الذي قالت الصحيفة إنه يستحق "شهادة الأيزو في الازدحام والقذارة وسوء التهوية، إذ أن القسم بداخله سبع غرف للحجز مجهزة لاستيعاب مائة شخص على الأكثر إذا كنا لانراعي حقوق الإنسان إلا أن هذه الغرف تضم 380 شخصًا بينهم عجائز وأصحاب أمراض معدية وأمراض مزمنة"، ووصفت المشهد بأنه "أقسى من أن يوصف ووقع المنظر غير الإنساني على أعضاء النيابة العامة كالصاعقة، لأن كل متهم نصيبه من الأرض شبر واحد يقف عليه بقدم واحدة، ويكون نصيبه الموت خنقًا إذا راوده حلم الجلوس على الأرض، وجاء على نصيب زميله وحصل على شبر أكثر من حقه. هؤلاء المتهمون ينامون وهم وقوف على قدم واحدة، وإذا اتفقوا على النوم على البلاط مثل باقى عباد الله فيكون ذلك من خلال ورديات كل مجموعة تنام ساعة واحدة على أن تتكدس المجموعات الأخرى داخل بقعة من الغرفة حتى ينالهم الحظ السعيد، ويأتي عليهم الدور ويستلقون على الأرض ولو نصف ساعة "، وأشارت إلى أنه نتيجة لذلك "لفظ متهمان أنفاسهما خلال ثلاثة أيام داخل حجز قسم الشرطة بسبب إصابتهما بهبوط حاد في الدورة الدموية نتيجة للاختناق بسبب التكدس والزحام الشديد داخل القسم"، وتزامنًا مع حملات الهجوم الصحفية على الداخلية جاء الإعلان عن وفاة المحامي إمام عفيفي إبراهيم (63عامًا) داخل مستشفى المطرية يوم الأربعاء الماضي بعد أيام من نقله إليها جراء تعرضه للتعذيب أثناء احتجازه داخل قسم شرطة المطرية، وبعدها بيوم واحد أُعلن عن مقتل المواطن محمد العسكري (51عامًا) بعد أن تعرض بحسب محاميه للتعذيب بقسم شرطة العبور، ثم نقل إلى مكان تحت الإنشاء وأطلق عليه الرصاص قبل أن يتم الإعلان عن قتله "بصفته مسئول العمليات النوعية في جماعة الإخوان إثر تبادل لإطلاق النار بينه وبين الشرطة"، لم يكن الأمر صادمًا لي على الأقل فقد كشف لي أحد الزملاء الذي أفرج عنه مؤخرًا بعد شهور من الاحتجاز داخل أحد أقسام الشرطة سيئة السمعة بالقاهرة عن أوضاع أقل ما توصف بأنها "غير آدمية" أو حتى "حيوانية"، حتى إن المحتجزين أصيب بلوثة عقلية نتيجة التعذيب الشديد الذي تعرض له قبل أن يلقى حتفه، كما حكى لي أنه كان محتجزًا معه طفل في الصف السادس الابتدائي يبلغ من العمر 11عامًا، بعد أن ألقي القبض عليه في أحد المظاهرات، ولأن هذا الزميل كان في أوضع احتجاز أفضل نسبيًا من الآخرين، فقد قال لي إنه كان يجلس هذا الطفل إلى جانبه خوفًا من تعرضه للاغتصاب كما حصل مع غيره من عتاة المجرمين، والذين ينصبون من أنفسهم زعماء داخل مراكز الاحتجاز بأقسام الشرطة يفرضون الإتاوات كما يريدون، يبيعون كافة أصناف المخدرات دون رقيب أو حسيب، بالتأكيد هذا غيض من فيض لما يجرى داخل أقسام الشرطة.