الأحداث الطائفية التي شهدتها منطقة "ماسبيرو" بالقاهرة مؤخرًا هزَّت المجتمع المصري من أعماقه، وجعلت ثورته الرائعة مهدَّدة في تحقيق أهدافها التي حلم بها المصريون جميعًا؛ فقد هاجم بعض المتطرفين النصارَى، قوات الجيش والشرطة العسكرية المتمركزة حول مبنَى الإذاعة والتلفزيون، بالأسلحة النارية والبيضاء وزجاجات "المولوتوف"، مما أدَّى إلى سقوط 27 قتيلاً ومئات الجرحى، بعد أنّ تجمّع عِدَّة آلاف من النصارى محاولين الاعتصام، في إطار الاحتجاجات في أزمة "مضيفة" قرية المريناب بإدفو من أجل تحويلها إلى كنيسة، والمطالبة بإقالة محافظ أسوان، على خلفية موقفه من الأزمة "المُفْتَعلة" ورفضه الانصياع لضغوط النصارى في ظلّ التلاعب والتزوير من جانب الكنيسة في الأوراق والمستندات الرسمية. المعلومات المؤكَّدة فيما يخصّ قرية "المريناب" هي عدم وجود كنيسة من الأساس كما يدَّعِي النصارى؛ حيث إنَّ المحافظ كان قد أصدر قرارًا بالموافقة على ترميم كنيسة تقع بقرية "خور الزِّقّ"، والتي تبعد عن قرية المريناب بنحو 50 كيلومترًا تقريبًا، وتَمّ إجراء المعاينات عليها والموافقات التي صدرت بخصوصها، لكن التنفيذ الفعليّ تَمّ بقرية "المريناب" التي يوجد بها مجموعة من النصارَى يصل عددهم إلى 75 شخصًا، في حين يبلغ تعداد المسلمين بها نحو10 آلاف نسمة. الأزمة تفجَّرت بعد قيام أحد النصارى بمخالفة القرار الذي صدر له العام الماضي بإحلال وتجديد وبناء "مضيفة" خاصة به على مساحة 280 مترًا، والتي كانت في الأصل عبارة عن منزل قديم وشرع في تحويلها إلى كنيسة، مما تسبّب في احتقان وإثارة أهالي القرية. وبناءً على شكوى تقدَّم بها أهالي "المريناب"، تَمّ إحالة المخالفات للنيابة العامة لمحاسبة الذين تلاعبوا في استخراج الترخيص، خاصَّة وأنَّ الكثافة السكانية لا تسمح بإقامة كنيسة، وحيث توجد كنيسة أخرى قريبة بمنطقة "الحاج زيدان". كان المحافظ قد سبق أن وافق على طلب النصارى بإعادة بناء المضيفة التي كانت من الخشب والبوص وعلى ارتفاع تسعة أمتار بنفس الارتفاع، إلا أنَّهم تجاوزا هذا الأمر ورفعوا المضيفة إلى ارتفاع 13 مترًا، لكن المسلمين في القرية غضبوا من هذا التجاوز، وتدخلت مجموعة من المشايخ والمعنيين في هذا الأمر، واعترف النصارى بهذا التجاوز ووعدوا بإزالة الأمتار الزائدة، إلا أنَّ التنفيذ تأخَّر كثيرًا، وهو ما أغضب أحد الشيوخ الذي قام بتجميع الشباب عقب صلاة الجمعة لإزالة الارتفاع الزائد بأنفسهم. لم يتحرك عشرة آلاف نصراني من منطقة "شبرا" إلى "ماسبيرو" من تلقاء أنفسهم وإنَّما بتحريض من رجال دين على رأسهم القمص متياس نصر كاهن كنيسة عزبة النخل، والقسّ فلوباتير جميل كاهن كنيسة الطوابق بفيصل. كما جاءت هذه الأحداث في أعقاب تهديداتٍ سابقةٍ لأحد رجال الدين النصارى بقتل محافظ أسوان ومحاكمته على ما بدَر منه تصريحات في أزمة قرية المريناب، والقبض على الذين هدموا "الكنيسة" – "المضيفة"- وتعويض المتضررين، وإعادة بناء "الكنيسة" في موقعها، وتخصيص كوتة للأقباط في الانتخابات البرلمانية القادمة. وجاءَت هذه الأحداث أيضًا بعد يومين فقط من تهديدات علنية ومسجلة بالصوت والصورة لقيادات كنسية تهدِّد المشير والمجلس العسكري إذا لم يرضخوا لطلبات القساوسة.. ولم تكن أحداث "ماسبيرو" بمعزلٍ عن شحن أقباط المهجر، الذين دأبوا خلال فترة ما بعد الثورة على الترويح لادِّعاءات بتعرُّض النصارى لاضطهاد واسع من جانب المسلمين، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ بل أعلن هؤلاء قيام دولة لهم في مصر، فسقط البعض في الفخّ ووقع أسيرًا لهذا الخطاب التحريضي، وهذا ما بدَا من استجابة كثيرين للدعوات لحمل السلاح في مظاهرات الأحد 9 أكتوبر وإطلاق النار على قوات الجيش. وكان لافتًا أنَّ ذلك جاء بعد يومٍ واحدٍ من رسالة وجهها أحد متطرفِي أقباط المهجر، وتلقاها عدد كبير من الصحفيين والإعلاميين، وهي تحمل الدعوة لجموع النصارى إلى النزول في مسيرة مليونية يوم الأحد 9 أكتوبر- يوم الأحداث– وتشحنهم بأسلوب متطرِّف بأنهم ذاهبون إلى الشهادة. متطرفو المشروع الطائفي أصبحوا يجيدون تحويل الأمر الهامشي الصغير إلى كارثة وإلى أزمة تهدِّد مصر كلها، وإلى تحويل فكرة المضيفة إلى كنيسة بأسلوب تهييج الرأي العام، وتجنيد الميليشيات، للضغط على السلطة المرتعشة أمام الابتزاز وإرضائه على حساب القانون. وعن الطريق الكذب واختلاق الوقائع شحن قادة المشروع الطائفي الجماهير النصرانية البسيطة، وعن طريق هذا الشحن قامت هذه الجماهير برشق رجال الجيش والشرطة المكلفين بحماية مبنَى اتحاد الإذاعة والتلفزيون بالحجارة وأحرقوا سيارات الجيش والسيارات الخاصة وقطعوا طريق الكورنيش وهو طريق رئيسي، واشتبكوا مع المارّة الذين رفضوا سلوكهم التدميري القبيح، وأطلقوا الرصاص من الأسلحة النارية التي بحوزتهم على الجنود والضباط فأردوهم قتلى.. قادة المشروع الطائفي جعلوا بسطاء النصارى مُغَيَّبين عن الوعي وأمروهم بحمل أكفانهم لكي يستعدوا ل"الشهادة"، فمشوا يملؤهم العنف والحقد والغلّ ليحرقوا كل ما قابلهم وليحطموا سيارات الجيش والسيارات الخاصة ويرفعوا لافتات مسيئة للمجلس العسكري، ويهاجموا قوات الجيش والشرطة العسكرية بالأسلحة النارية والسيوف والخناجر وزجاجات "المولوتوف". كانت الجريمة هذه المرّة مصورة بالصوت والصورة، تسجل الحرق والتدمير وقتل الجنود، ولا مجال فيها للإنكار، ولذلك لم يجد البابا شنودة إلا القول إنّ فئة مندسة فعلت ذلك، وهو المعروف بتضخيم الأمور وتوزيع الاتهامات، لكنه لم يتهم الدولة أو أي طرف مسلم هذه المرّة. وكلام البابا يثير الضحك، فلماذا لم تفلح هذه الفئة المندسة إلا في هذه المظاهرة النصرانية بالذات رغم أنَّ المظاهرات يومية في مصر هذه الأيام؟ الجريمة هذه المرَّة سجلتها كاميرات التليفزيون الألمانِي وقناة الحرة "الأمريكية"، وآخرون، كل هؤلاء وثَّقوا مشاهد عملية اختطاف المتظاهرين لسيارات تابعة للجيش استولوا عليها وقاموا بقيادتها بطريقة جنونية لتسحق كل ما يقابلها وتصطدم عمدًا بسيارات أخرى للجيش. قادة المشروع الطائفي تَبَنّوا نهج المظاهرات المسلحة، فآخر مظاهرة لهم كانت خاصة بكنيسة العمرانية في 24-11-2010م، تحصن فيها أكثر من 3000 شاب نصراني بمبنَى الكنيسة وقاموا بعد فجر ذلك اليوم بأعمال شغب واعتداءات على قوات الشرطة، وقاموا بإشعال النار في الإطارات وأطلقوا قنابل المولوتوف على عناصر الأمن، وقطعوا الطريق الدائري. ثم انتقلوا في الساعة السادسة والنصف صباحًا إلى الديوان العام لمحافظة الجيزة، وأحدثوا تلفيات واسعة في المبنى الواقع بشارع الهرم، وقاموا بتحطيم بعض الممتلكات العامة في الشارع والمنطقة المحيطة بالمحافظة، احتجاجًا على قرار محافظ الجيزة بوقف أعمال البناء في مبنَى خدمي كانوا يسعون لتحويله إلى كنيسة. عرفت المظاهرات النصرانية إذًا منطق السلاح الناري والأبيض وقنابل المولوتوف، والأسلحة آلية من نوع مختلف عمَّا يحمله جنود الشرطة العسكرية، وهذا ينفي ما قاله بعض الكذابين في القنوات الفضائية بأنَّهم استولوا عليها من مركبات الجيش. لو كانت القيادات الكنسية وطنية يهمها الوطن لَمَا أشعلوا البلاد نارًا، فلا تكاد تمر عدة أيام إلا ويخترعون مشكلة من لا شيء ويتحرشون بالمجتمع والسلطة، كأنَّهم يريدون فرض أمر واقع. لو كانوا وطنيين للجئوا إلى أجهزة الدولة بالشكوى من المظالم، لكنهم لا يريدون ذلك، إنما يريدون شيئًا واحدًا فقط وهو إشعال النار في مصر حتى تصبح دولة فاشلة ويكون هناك مبرِّر لدخول القوات الدولية لحمايتهم. والمؤكد أنَّ ثورة 25 يناير لم تأتِ على هوى قادة وأركان المشروع الطائفي، فهذا المشروع لا يتقدَّم إلا في نظام سياسي فاسد مثل نظام مبارك، الذي لم يكن يلجأ إلى القانون وإنما كان يستجيب لضغوطهم بتحقيق كل طلباتهم وبالخوف من مظاهراتهم وعويلهم، مثلما سلَّمهم رئيس ديوان رئيس الجمهورية وفاء قسطنطين بمكالمة تليفونية. ولذلك كانت الكنيسة الداعم الأكبر لمشروع التوريث. وحينما ذهب النظام البائد وقامت الثورة وأصبح المصريون يتحدثون عن دولة العدالة والقانون، خافَ أركان المشروع الطائفي وأصبحوا يعملون بكل ما يملكون من أجل إيجاد واقع فوضوي لإعاقة الثورة ومنعها من تحقيق أهدافها. ورغم كل ما قلناه في السطور السابقة، فإننا لابدَّ أن نعترف بأن بطء وتلكأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة في اتخاذ القرارات المهمة التي كان من شأنها إرساء قواعد الدولة الديمقراطية في مصر التي تحقق المساواة والعدالة بين المصريين، هذا البطء ألقى بظلاله على كل ملامح الحياة في مصر وجعل البيئة منتجة للمشكلات والأزمات. استجاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمستشاري السوء وترزية القوانين من مُخَلّفات العهد البائد، وعن طريقهم كان الإخفاق في إدارة المرحلة الانتقالية، ويكاد هذا المجلس يفرغ ثورة 25 يناير المجيدة من محتواها النبيل، فلم يقم بتطهير المجتمع من الفاسدين، ولم ينصت إلى الآراء السديدة التي طرحها مفكرون وكتاب وسياسيون شرفاء لإدارة المرحلة الانتقالية بطريقة سليمة وفى وقت قصير، ولم يطهر وزارة الداخلية من زبانية الإجرام والتعذيب، ولم يقضِ على ظاهرة الانفلات الأمني، وهو قادر بلا شك لو أراد.. الخ. لذلك فلا غرابة في أن يعود فلول النظام البائد إلى سطح المجتمع مرةً أخرَى ليظهروا في الفضائيات المشبوهة، وليظهروا أيضًا كمرشحين في الانتخابات البرلمانية. أخطر ما في هذه الأزمة أنَّ رجال السياسة والإعلام وقادة الجماعات والأحزاب، أي النخبة المصرية، أصبحت لا ترَى الجريمة التي تقودها الكنيسة الأرثوذكسية، فالجميع إلا مَن رحِم ربي لا يشير إلى الحقيقة حتى يتم تحديد المخطئ وحسابه بالقانون. الكل يخاف أن يشير إلى المتهم في جريمة مصورة ومسجلة؛ لأنه يعلم أن القافلة كلها تسير في طريق آخر لا يرى الجرم الطائفي المشهود. وطالَمَا أنَّ الجاني ينفِّذ جريمته كل مرة ويهرب دون عقاب فلا مستقبل لهذا البلد. البادرة الوحيدة للجهر بالحق كانت في المؤتمر الصحفي الذي عقده المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمناقشة الأمر، وفيه قال ممثلون عن المجلس: إنّ المتظاهرين النصارى كانوا مسلحين، وأنه كان هناك تحريض لهم من قيادات دينية وشخصيات عامة. المصدر: الإسلام اليوم