مَن منا لم يمر في حياته بمِحَن وصعوبات بالغة أصابته بحالة من اليأس والحزن والشعور بالعجز وقلة الحيلة لدرجة دفعته في لحظة ضعف وضيق شديد إلى الدعاء على نفسه بالهلاك، وتمني لو مات قبل ذلك وكان نسيًا منسيا للنجاة من ويلات ما يعاني في هذه الدنيا التي طُبِعَت على كَدَر، والتي إذا أعطت أخذت، وإذا أفرحت أترحت، وإذا أضحكت أبكت، وإذا جمعت فرقت؟.. مَن من الأمهات لم يغضبها أحد أبنائها يومًا ما بارتكابه بعض الحماقات أو سلك بعض السلوكيات الشائنة المعيبة، إلى الحد الذي جعلها رغمًا عنها تدعو عليه بالسوء بعد أن فقدت السيطرة على أعصابها وعواطفها وأعماها الغضب الشديد عن إدراك خطورة ما تقول؟..
كثيرون هم من فعلوا وسيفعلون ذلك تحت تأثير الألم والانفعال الشديد الذي قلما يستطيع أحد تمالك نفسه وضبط أعصابه خلاله.. لذا كان التوجيه النبوي الكريم بالنهي عن ذلك خشية أن يوافق هذا الدعاء ساعة إجابة..
عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكُم، ولا تدعوا على أموالكُم، لا تُوافقُوا من اللهِ تعالى ساعة نيْلٍ فيها عطاء فيستجيب لكم)، رواه أبو داود بإسناد صحيح. من المؤكد أن من يدعو على نفسه أو ولده أو ماله أو خدمه بالشر لا يريد ذلك ولا يقصده في الغالب الأعم، ولهذا قال الله تعالى: {وَيَدعُ الإِنسانُ بِالشَّرِ دُعاءَه بِالخَيرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} (الإسراء: 11)، وقال عز وجل: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} (يونس: 11)، أي أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم حال ضجرهم وغضبهم، لأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك، فلهذا لا يستجيب لهم -والحالة هذه- لطفًا ورحمة، ولو استجاب لهم كل ما دعوه به في ذلك لأهلكهم، وفوق ذلك يتكرم الله عليهم بالاستجابة لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأولادهم وأموالهم بالخير والبركة..
وقد جاءت السيرة النبويّة الشريفة بقصّة تبين أمثال هذه الحال, أمثال أمّ غضبت من ابنها, فحملها غضبها أن تدعو عليه وكانت لحظة استجابة وساعة فُتِحَت فيها أبواب السماء للدعاء..
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كان رجلٌ في بني إسرائيلَ يُقالُ لهُ جُرَيجٌ يُصلّي، فجاءتهُ أُمّهُ فدعَتهُ، فأبى أن يُجيبَها فقال: أُجيبُها أو أُصلّي؟، ثمّ أتَتْهُ فقالت: اللهمّ لا تُمتهُ حتّى تُريَهُ وُجوهَ المومِساتِ.. وكان جُرَيجٌ في صَومَعتهِ، فقالت امرأةٌ: لأَفْتِنَنّ جُرَيجًا.. فتعَرّضَتْ لهُ فكلّمَتْهُ، فأبى.. فأتَتْ راعيًا فأمكَنَتْهُ من نفسِها، فوَلَدَتْ غُلامًا فقالت: هو من جُرَيجٍ.. فأتوهُ وكَسروا صَومعتَهُ، وأنزلوهُ وسَبّوهُ، فتوضّأَ وصلّى، ثمّ أتى الغُلامَ فقال: مَن أبوكَ يا غُلامُ؟، قال: الراعي.. قالوا: نبني صَومعتَكَ من ذهب؟، قال: لا، إلاّ من طينٍ». لقد ارتكبت هذه الأمّ بحقّ ولدها خطأ كبيرًا حين دعتْ عليه، لأنّه لم يجبها؛ ووافق ذلك ساعة استجابة، فقبل الله دعاءها .. ولم تذكر كتب التاريخ شيئًا عن شعور أمِّ جريج عندما عرفت بما أصاب ولدها بسبب دعائها؛ وإن كان أغلب الظن أنها جلست تعضّ أصابعها ندماً تبكي وتتضرع إلى الله أن ينقذ ابنها.
وفي هذه القصة عبرة وعظة لكل أم بأن تحاول قدر الاستطاعة تمالك نفسها والتحكم في أعصابها حال غضبها من فلذة كبدها حتى لا يصاب جراء دعوتها عليه بمكروه فيكون الندم والألم المستمر حليفها، وأن تستخدم الأم سلاح الدعاء بشكل إيجابي نافع، فتبتهل إلى الله بالدعاء لهم وليس عليهم.. ويمكن أن يكون الدعاء بالهداية مصحوبًا بإبداء الضجر والتذمّر من فعل ولدها، فهذا لا مانع فيه، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتبسّم تبسّم المغْضَب، كناية عن حبٍّ ولكنْ فيه غضب من بعض الأفعال.. فعن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلّفه عن غزوة تبوك قوله: « فلما سلَّمتُ عليه تَبَسَّمَ تبسُّمَ المغضَبِ» [متفق عليه]. وكذلك الأم تستطيع أن تستخدم دعاء المغضَب وليس دعاء الغضبان، بأن تقول بنبرة صوتيّة تدل على الاستنكار: ( الله يهديك ). عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.