لم أستغرب أن تنتشر حالة من القلق وعدم الاقتناع بين قوى سياسية عديدة تجاه ما أسفر عنه اجتماع الفريق سامي عنان قبل أيام مع أحزاب سياسية من مختلف ألوان الطيف السياسي المصري والذي انتهى إلى عدة قرارات ، لعل أهمها إلغاء المادة الخامسة من قانون الانتخابات التي كانت تمثل بوابة لعودة فلول الوطني وهيمنتهم على ثلث البرلمان بعد حرمان الأحزاب الأخرى من المنافسة على هذا الثلث ، وأيضا وضع جدول زمني لإنجاز المؤسسات المدنية للحكم مثل مجلس الشعب ومجلس الشورى والدستور الجديد وموعد انتخابات رئيس الجمهورية ، والمثير أكثر أن بعضا من الأحزاب التي شاركت في التوقيع على بيان الاتفاق حاولت التملص من توقيعها أو التحوط أو التحفظ على بعض ما كان في الاجتماع تحت ضغط الانتقادات الساخنة والحادة ، وإن اختلفت أسباب كل حزب في ذلك الموقف الجديد . أعتقد أن جوهر المشكلة لا تتصل بهذا الاجتماع ونتائجه ، لأنه في حد ذاته إيجابي إلى حد كبير ، ولكن المشكلة تتمثل في "أزمة ثقة" بين القوى السياسية وقوى الثورة بشكل أساس ، وبين المجلس العسكري ، وأجد من الأمانة القول بأن أزمة الثقة لها ما يبررها ، لأن المجلس أخل ببعض وعوده التي قطعها على نفسه أول الأمر وأهمها حصر الفترة الانتقالية في ستة أشهر وكذلك رفع الطوارئ قبل الانتخابات البرلمانية بينما هو يفعلها قبلها بأسابيع ، ولأن بعض القرارات والقوانين والإجراءات التي اتخذها المجلس العسكري خلال الأسابيع الأخيرة كانت صادمة لأشواق الأمة في عهد جديد ودولة ديمقراطية جديدة ، وحتى طريقة اتخاذ هذه القرارات أو إنجاز القوانين كانت غامضة جدا وكأنها تطبخ بليل أو تبيت بليل ، إ ضافة إلى بروز مظاهر لا تخطئها العين في الإعلام الرسمي ، مثل التليفزيون الحكومي والصحف القومية تكشف عن عودة نفس سياسات مرحلة مبارك والعداء المسموم للثورة وبث روح الكراهية بين المواطنين تجاه الثورة ونتائجها ، وهي مظاهر جرى العرف في مصر أن من يقومون بها لا يعملون من محض إرادتهم ، وإنما بتوجيه قيادات عليا في الدولة ، وفي كل الأحوال لا يعقل أن يكون هذا كله ضد إرادة المجلس العسكري . وتتزايد المشكلة تعقيدا عندما دخل على الخط مثقفون وصحفيون ومحترفو سياسة قدامى ، يعرضون "خدماتهم" على المجلس العسكري ، وهناك معارك طحن تدور الآن بين بعض السياسيين والصحفيين خلفيتها الأساسية النزاع على الاستئثار "بحجر" المجلس العسكري ، حيث أدرك كثيرون أن مشكلة المجلس العسكري تكمن في ضعف درايته بتفاصيل الخريطة السياسية والدينية والثقافية والاقتصادية في مصر مما انعكس على تردده في اتخاذ مواقف مهمة أو الالتزام بها ، وكذلك قلقه من رموز الثورة ورجالها وقواها وأحزابها ، لأنهم يتعاملون معه بندية وأحيانا بتحرش ، وبالتالي يشعر بعض قادة المجلس بالقرب والأنس بشخصيات حزبية وإعلامية وأكاديمية لا تملك أي ميول ثورية ، وليست مهمومة ببناء مصر الجديدة بمؤسساتها الديمقراطية ، وتتبارى في تقديم فروض الولاء "لأي فرعون جديد" أيا كان اسمه أو صفته ، ويتسابقون في تقديم خدماتهم إلى المجلس العسكري بوصفهم "النخبة" المدنية المؤتمنة والموثوقة لدعمهم وصناعة ستار مدني يحميهم من ضغوط الثورة وقواها وأحزابها وشبابها . وأتصور أن قوى الثورة في حاجة ماسة إلى "تفكيك" هذه الخريطة والتصدي لها بكل قوة مبكرا ، قبل أن تترسخ ، والثورة وحيويتها قادرة على سحق هذه الوجوه وتلك الألاعيب ، كذلك لا بد في هذه المرحلة الدقيقة من تحديد مطالب التفاوض مع المجلس العسكري بشكل دقيق وواضح بدلا من التشنج المطلق أو الرفض المطلق ، فلا يمكن أن نرفض نتائج الاجتماع الأخير بشكل مطلق ، لأن فيه إيجابيات لا تخطئها العين ولا العقل ، ولكن من المهم أن يتم التركيز على ما فيه من سلبيات ، مثل الغموض في مسألة رفع الطوارئ ، وخاصة أن تصريحات المشير طنطاوي أمس والتي عاد فيها إلى لغة " سيتم رفعها في أسرع وقت بشروط" تعيد نفس التعبيرات التي استخدمت لمد الطوارئ ثلاثين عاما ، والحقيقة أن مسألة الطوارئ لا تحتمل الفصال السياسي ، وإذا لم يتم رفع الطوارئ قبل الانتخابات البرلمانية فإن ذلك سيكون مؤشرا على نية العبث بالاتفاق والتلاعب بمطالب الأمة الجوهرية ، والنقطة الأخرى التي ينبغي حسمها في الجدول الزمني لانتقال السلطة ، تتمثل في ضرورة التزام المجلس العسكري الواضح بتكليف الأحزاب والقوى الفائزة في الانتخابات بتشكيل الحكومة المقبلة فور انتهاء الانتخابات ، لأن هذه ألف باء الديمقراطية وأبجديات ميلاد الديمقراطية في أي بلد بالعالم ، بل لا معنى للانتخابات إذا لم يكن ذلك حتميا . مسألة انتخاب رئيس الجمهورية علقها المجلس العسكري على إنجاز الدستور والاستفتاء عليه وأكد أن الدعوة لانتخاب رئيس جديد ستتم في اليوم التالي لظهور نتيجة الاستفتاء ، وهو تعليق لا يوجد ما يبرره ، ولكني لا أعتبره معضلة ، فإذا كان الأمر كذلك ، فإن المسألة ستكون بيد مجلس الشعب المنتخب ومجلس الشورى ، لأن تكليفهم للجنة وضع الدستور يمكن أن يشتمل على طلب بإنجاز مشروع الدستور خلال أسبوعين أو شهر على الأكثر ، وليس شرطا أن يستمر إلى منتهى المدة وهي ستة أشهر ، لأن معظم محاور الدستور مجمع عليها الآن ، وفي هذه الحالة ستكون الدعوة إلى انتخاب رئيس الجمهورية في أبريل أو مايو المقبل على أبعد تقدير . لا أجد أي مبرر لفزع بعض الأحزاب الإسلامية التي وافقت على الاتفاق من مسألة "ميثاق شرف" لمبادئ الدستور ، والقول بأن هذه وصاية على الشعب كلام غير موفق بالمرة ، ويبدو أن الأمر اختلط عليهم ، لأن فكرة ميثاق الشرف ليست مبادئ مفروضة على الشعب وإنما معروضة عليه من قبلل الأحزاب الموقعة ، ليقبلها أو يرفضها ، فالاتفاق عليها هو بين الأحزاب نفسها طالما هي مقتنعة ببنودها ولا يوجد تحفظات جوهرية عليها ، وأتصور أن التشنج الزائد في هذه النقطة هو وساوس ناتجة من ضغط الخوف من تشهير بعض المتربصين بأن هذا الحزب أو ذاك تخلى عن مبدئه القديم برفض فكرة المبادئ فوق الدستورية ، وليست القضية المطروحة الآن هي الفكرة القديمة ، ولكنها مخرج معقول جدا ، يطمئن الجميع ، ولا يلزم الشعب بشيء أو يفرض وصاية عليه ، لأنه صاحب الاختيار والقبول أو الرفض في النهاية . [email protected]