الموقف الرسمي المصري الحالي من الشأن الليبي شديد الاضطراب ويعمل وفق منطق اليوميات ، حساب يوم بيومه ، دون نظر إلى المستقبل واحتمالاته والاستعداد للتعايش معه ، ما زال الموقف الرسمي المصري حتى الآن ينظر إلى الأزمة في ليبيا على أنها أزمة مواجهة بين الجيش "الشرعي" جيش حفتر وعناصر إرهابية ، بينما العالم كله ينظر إلى ليبيا باعتبار أنها أزمة انقسام سلطة وسلاح وشرعية ، فهناك حكومتان وبرلمانان وجيشان كلاهما تدعي الشرعية وكلاهما متهمة أيضا بعدم الشرعية ، الأولى في مدينة طبرق في أقصى الشرق ، وهي لا تسيطر إلا على مساحات صغيرة من التراب الليبي ، ولا تملك أدوات عسكرية حقيقية فكان أن لجأت إلى جنرال سابق في جيش القذافي "خليفة حفتر" لتعتمد عليه وتضفي عليه صفة الجيش الشرعي ، رغم أن نفس الحكومة والبرلمان الذي يرعاها هي التي وصفته قبل ذلك بأنه غير شرعي وأنه يقود ميليشيات غير قانونية ، لكن للضرورة أحكام ، وأصبحت تلك الحكومة تحت سيطرة حقيقية من الجنرال المتمرد خليفة حفتر ولا تملك حتى أن تتحرك في طبرق نفسها إلا بإذنه ، وقد هددها قبل أسابيع بقصف برلمانها إذا لم يتم اعترافها بتنصيبه قائدا عاما للجيش ، فكان أن انصاعت صاغرة له ، وقد فعل ذلك حفتر استباقا لمؤتمر المصالحة الوطنية الذي ترعاه الأممالمتحدة لكي يفرض أمرا واقعا على نتائجه ، ولذلك تراه يصعد الاشتباكات والعنف كلما تقدم الحوار خطوة . حكومة طبرق تأسست باعتبار أنها تمثل البرلمان المنتخب ، غير أن البرلمان فقد شرعيته بعد أن حكمت المحكمة الدستورية العليا في ليبيا ببطلان طريقة انتخابه ، وأصبح هو والعدم سواء ، ولكن المجتمع الدولي اضطر للإبقاء على التعامل مع حكومة طبرق بشكل جزئي واستثنائي حتى لا تتحول ليبيا إلى دولة فاشلة وبدون حكومة مما يسمح بتمدد الإرهاب وانتشار الفوضى وتشظي البلاد ، ولكن المجتمع الدولي يتعامل في الواقع مع حكومتين وبرلمانين ، ويقوم المسؤولون الدوليون بالاجتماع الدوري مع الحكومة في طبرق والحكومة في طرابلس . الحكومة الأخرى هي حكومة طرابلس والتي تتأسس على شرعية المؤتمر الوطني "المنتخب" ولكن ولايته انتهت ، ولكنه وجد مسوغا قانونيا وسياسيا لعودته للانعقاد لحين إجراء انتخابات برلمانية جديدة ، وحكومة طرابلس تملك جيشا ورئاسة أركان وقوات تسيطر على معظم التراب الليبي ، وهي الحكومة العملية الحقيقية في ليبيا ، وتتعامل معها معظم الدول الأخرى باعتبارها الحكومة الشرعية والواقعية ، بما في ذلك جيران ليبيا مثل تونس والجزائر . الآن ، الأممالمتحدة ترعى حوارا وطنيا ليبيا ، ينعقد في المغرب ، يقترب من الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية ، من أعضاء بحكومة طبرق وآخرين بحكومة طرابلس ، وهناك مباحثات في اعتماد مجلس تشريعي مصغر موحد أيضا ، والاتفاق على رئيس للحكومة الجديدة يكون محايدا ، وبطبيعة الحال سيكون هناك الاتفاق على عدد من الاستحقاقات المفصلية ، مثل توحيد الجيش واختيار قائد عام جديد للجيش الليبي ودمج الكتائب المسلحة في الجيش الجديد وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية ، وترى الأممالمتحدة ومعها العواصم الكبرى أن هذا هو الخيار الوحيد لوقف الفوضى والعنف في ليبيا وللسيطرة على الخلايا الإرهابية التي بدأت تنشط هناك . مصر حتى الآن تدير ظهرها لهذه الترتيبات ، وترفض عمليا مسار المصالحة الوطنية ، ولما ضاقت عليها الأمور ورأت الإجماع الدولي على المسار الجديد أعلنت القبول به شكليا ، لكنها حاولت أن تقدم تفسيرا خاصا بالحل السياسي في ليبيا ، ملخصه أن ندعم خليفة حفتر وجيش طبرق باعتباره الجيش الشرعي الوحيد ونمده بالسلاح والعتاد والتدريب ونلاحق قوات جيش طرابلس وحكومتها باعتبارهم إرهابيين ؟!! ، هذا بطبيعة الحال كلام مثير للشفقة ، ومن العبث أن نضعه في أي سياق يتحدث عن حل سياسي ، كما أنه لا يعني سوى أن مصر تحاول عرقلة المسار السياسي التصالحي في ليبيا وأنها لسبب لا نفهمه تضع رهانها كله في سلة خليفة حفتر . لا يوجد أي منطق من عقل سياسي أو مصلحة وطنية تستدعي كل هذا التشنج والعناد في الموقف من مسار التسوية في ليبيا ، فهو يسمح بالسيطرة على الإرهاب ، كما يسمح بفتح المجال أمام إعادة إعمار ليبيا بما يعني فتح المجال أمام مئات الآلاف من فرص العمل للمصريين الأكثر قبولا لدى الشعب الليبي ، كما يحمي مصالح مئات الآلاف الآخرين من المصريين العاملين في ليبيا والمعرضين للاستباحة بفعل التدخل المصري لصالح حفتر ، كما يسمح بمعاملات خاصة في مجال الطاقة تخدم مصر في ظروفها القاسية الحالية ، كما يسمح بالسيطرة على الحدود ومنع تشكل خلايا إرهابية تهدد الأمن القومي المصري ، وكل ذلك سيكون برعاية أممية ورقابة دولي صارمة ، فلماذا ترفض كل ذلك ، ولماذا تعاديه ، ما هو المنطق ، هل لمجرد الكراهية في أن يكون هناك وزراء إسلاميون أو إخوان في الحكومة الجديدة ، هل لكي لا يقال أن الربيع العربي نجح وانتصر في ليبيا ، هل مصر يقودها الصراع الأيديولوجي أم تبحث عن مصالحها القومية كدولة ووطن بعيدا عن التجاذبات الأيديولوجية ، هل يتصور صانع القرار المصري الآن أنه يمكنه أن يشكل تحالفا مع دولة بحجم الإمارات يتحدى به المسار الدولي كله في ليبيا ، ومن يتحمل تكلفة معركة الاستنزاف السياسي والأمني والاقتصادي والعسكري الاعتباطية هذه ، ما هذا العبث ؟!