تشهد ليبيا حاليا أياما صعبة وحاسمة ، وسيكون لها تأثير كبير على مستقبلها ومستقبل ثورتها ، ثورة 17 فبراير ، وتتميز الثورة الليبية بأنها كانت "ثورة مسلحة" قام بها الشعب ضد جيش هو أقرب لميليشيات يقودها خميس ابن القذافي تدعمه خلايا إجرامية تحت مسمى "اللجان الثورية" التي كان يوظفها القذافي في ترويع المواطنين وقتلهم أحيانا إذا صدر منهم أي قول أو سلوك يشي بالضيق أو المعارضة ، والثوار الليبيون تحولوا بعد انتصار الثورة إلى كتائب للجيش الليبي الجديد تعتبر نواة له ، وتعمل تحت إمرة رئاسة الأركان ، وكان الإسلاميون باختلاف توجهاتهم يملكون غالبية واضحة في البرلمان الجديد "المؤتمر الوطني" ويشكلون الحكومة ويبسطون الأمن عمليا في ربوع ليبيا ومحافظين على وحدتها ، وهذا ما كان يقلق عواصم عربية وخليجية بالأساس تقود الثورات المضادة في عواصم الربيع العربي لإفشالها وعدم إتاحة الفرصة أمام أي تجربة إسلامية للنجاح ، ففزعوا من نجاح التجربة الليبية وعملوا بكل السبل من أجل عرقلتها ثم تدميرها من خلال دعم ميليشيات موالية لنظام القذافي لإثارة الفوضى في العاصمة ووصلت إلى حد اختطاف أعضاء بالبرلمان المؤقت في طرابلس وقصف مقره بالصواريخ ، دون أن يسمع أحد صوتا للمجتمع الدولي أمام هذه الفوضى والتآمر على الشرعية المنتخبة ، ثم وصلت ليبيا إلى إجراء الانتخابات البرلمانية الأخيرة حيث أنفقت الإمارات ، من خلال رجلها محمود جبريل الذي انقلب على ثورة بلاده بعد صدور مشروع دستوري قضى بعزله سياسيا ضمن من عملوا مع القذافي ونظامه في السنوات التي سبقت الثورة ، أنفقت أموالا طائلة من أجل شراء ذمم قيادات قبائلية نافذة ، مما مكنه من صناعة غالبية برلمانية ، ولكنه أخطأ خطأ فادحا إذ لم يصدق نجاحه في تلك الخطوة وكان متعجلا على تصفية الثورة وسحق أبنائها ، فقرر عقد البرلمان في طبرق وليس في بنغازي حيث المقر الدستوري له وكان هذا خطأ دستوريا فادحا ، ثم تورط في سلسلة قرارات أعلنت الحرب على مخالفيه ومثلت إقصاءا دمويا مروعا لأي معارضة له ، وخاصة الإسلامية ، واعتبرهم جميعا إرهابيون ، وهم كتائب الجيش الليبي وقادة الثورة الميدانيين ، ثم أعلنوا دعمهم للعسكري السابق خليفة حفتر اللاجئ في أمريكا والذي تدفق عليه السلاح بشكل مثير وامتلك مليارات الدولارات ينفق منها على ميليشيات تابعة له وعقد تحالفا مع اللجان الثورية القديمة للقذافي خاصة في بنغازي وبعض ما تبقى من جيش القذافي الذين أضيروا من الثورة التي همشتهم ، اعترف برلمان طبرق بكل هذه التشكيلة غير الشرعية والتي لا تنتمي إلى ثورة ليبيا التي يحكمون باسمها بأي معيار ، وأعلن حفتر الحرب على قوى الثورة في بنغازي وأنه سيطهر البلاد منهم ، بل سيطهر ليبيا كلها منهم ، ومن ساعتها ونزيف الدم متتالي في شرق ليبيا وغربها ، بفعل الحرب المجنونة التي أعلنها حفتر وبرلمان الانقلابيين في طبرق مدعومين بقوى إقليمية وخليجية عديدة . الآن تنظر المحكمة العليا في دستورية وشرعية انعقاد برلمان طبرق ، بدعوى رفعها أعضاء بالبرلمان نفسه ويقاطعونه لهذا السبب ، ورجح جميع الخبراء القانونيين أن المحكمة ستنتهي بداهة إلى بطلان انعقاده في طبرق لأن نص المادة الدستورية واضح في المسألة ، وبالتالي بطلان ما ترتب على ذلك من قرارات بما فيها تشكيل الحكومة ، وكان مقررا أن تصدر المحكمة حكمها في 20 أكتوبر الماضي ، لكنها أجلته للأربعاء المقبل 5 نوفمبر بطلب من محامية البرلمان ، في إشارة لإدراكها أن الحكم ليس في صالحها ، وقالت في تبرير طلبها أن هناك حوارا يتم إجراؤه مع الطرف الآخر لحل الأزمة ، فقررت المحكمة تأجيل حكمها ، وفي اليوم التالي لقرار التأجيل أعلن برلمان طبرق حربا شاملة ، وتأييده المطلق لزعيم الميليشيات خليفة حفتر ودعمه بالسلاح والمال لسحق قوى المعارضة في بنغازيوطرابلس ، مما فهم منه أنهم حصلوا على "مهلة" من المحكمة بوعد من حفتر وحلفاء له في المنطقة والخليج بأن يسحق المعارضة في بنغازي خلال أسبوعين ويبسط سيطرته عليها ومن ثم ينتقل البرلمان هناك وتنحل المشكلة بتصديق البرلمان في بنغازي على ما سبق له من قرارات في طبرق ، وبالتالي يتم تفريغ أي حكم للمحكمة من مضمونه . الحاصل الآن أن الخطة فشلت ، فالعاصمة والمدن الكبرى تحت سيطرة جيش الثورة بثبات وقوة ودحروا ميليشيات حفتر وبقايا لجان القذافي وهزموهم هزيمة ساحقة ، كما أن صمود الثوار في بنغازي كان أسطوريا ، وسحقوا محاولات حفتر والانقلابيين الاستيلاء على المدينة ، عاصمة الثورة ، ورغم الأعمال المروعة التي قام بها في بعض أحياء المدينة بالتعاون من لجان القذافي ومجموعات من المساجين الجنائيين الذين تم تهريبهم من السجون ، حيث قاموا بحرق وهدم منازل وقتل مواطنين على الهوية ، ورغم المدد المالي والعسكري الكبير الذي تلقاه حفتر من داخل ليبيا ومن خارجها ، إلا أنه فشل ، ورغم إعلان الصحف والقنوات الفضائية الخليجية والليبية المدعومة خليجيا مرارا عن أن قوات حفتر التي يصفونها بالجيش الوطني استولت على بنغازي وسحقت "الإسلاميين" ، إلا أن غبار المعارك كشف عن زيف هذا كله ، وأنه كان أمنيات من خططوا للعبة وليس واقعا على الأرض . تبقى يومان على موعد المحكمة ، لكي تصدر حكمها في شرعية البرلمان ، وهو ما أحدث إحباطا شديدا وقلقا واضحا لدى مجموعة طبرق وحلفائها في الخليج ، لأن بطلان انعقاده يسحب الشرعية التي يعتاش عليها حاليا ويستند إليها داعموه الإقليميون ، كما يمنح الشرعية تلقائيا لحكومة الانقاذ الوطني التي شكلها المؤتمر الوطني "البرلمان المؤقت" في طرابلس العاصمة وتدير شؤون الدولة فعليا في معظم التراب الليبي ، كما أن الحكم سيخلط الأمور خلطا شديدا في المستوى الإقليمي والدولي ، فهل تصدر المحكمة حكمها الأربعاء المقبل ، أم أنها ستمهل ميليشيات حفتر وبرلمان طبرق مهلة أخرى للحسم العسكري وهو ما يعرض المحكمة لإهدار المصداقية لأنها عندما كان الأمر يتعلق بشرعية حكومة أحمد معيتيق انعقدت خلال أسبوع واحد وأصدرت حكمها بعدم شرعيتها وهو ما احترمه "المؤتمر الوطني" حينها وقرر إقالتها ، فما معنى التسويف هنا والتأجيل المتتالي ؟