تتزاحم الواجبات اليوم أمام كل المصريين والمصريات. بعد أن أزاح المصريون العقبة الكؤود التى كانت تقف فى وجه أحلامهم وطموحاتهم علا صوت المطالبات وارتفع هتاف الحرية فى كل مكان، وتزاحمت الأولويات أمام كل مصرى ومصرية. بعد ان أفاق المصريون على فجر تحطيم قيود الأغلال التى كانت تكبّل حريتهم وتمنع حركتهم إذا بهم ينطلقون فى حركة لا تتوقف ولكنها فى كل اتجاه فإذا بالمحصلة ضعيفة أو لا تكاد تذكر. الكل ينادى بحقوقه المشروعة التى عصف بها النظام البائد وحرم الجيمع منها عندما سيطر على البلاد وتحكم فى العباد بسطوة الأمن وأغلال القوانين والتعديلات الغير دستورية وجمّد الدماء فى عروق مؤسسات الدولة والمجتمع الأهلى بمصادرة الحريات واستنزاف الثروات وتأميم النقابات العمالية وتجميد النقابات المهنية ومنع الانتخابات الطلابية والجامعية وإهدار مئات الأحكام القضائية .. الخ. ونظراً لأن العهد البائد كان يطالب المصريين والمصريات دوماً بأداء الواجبات ويصادر حقهم المشروع فى المطالبة بالحقوق والحريات، إذا بالحركة تأتى اليوم ومنذ إدراك الجميع أن ذلك النظام انقضى إلأى غير رجعة فى الاتجاه المضاد تماماً ، فالجميع يطالب بالحقوق والحريات وينسى ولو فى غمرة حماس المطالب أن عليه أن يؤدى فى نفس الوقت الواجبات، فلا يوجد حق لا يقابله واجب. علينا أن نعيد ترتيب الأولويات فى ظل تزاحم الواجبات والمطالبات. الواجب الأول علينا الآن هوبناء مصر .. دولة المؤسسات التى تستطيع أن تحقق لنا ولأولادنا وأحفادنا آمالنا فى حياة حرة كريمة. والواجب الأول مكرر الآن هو استدرداد ثروات مصر وتنميتها تنمية حقيقية تكفل لنا وللأجيال القادمة العيش الكريم والمكانة اللائقة بنا كواطنين وببلدنا كوطن. البرنامج الذى يجب أن نلتقى عليه كمصريين الآن هو اختيار ممثلين للشعب فى كافة مؤسسات المجتمع المصرى من قاعدته إلى قمته، فى حرية ونزاهة وكفاءة بأكبر توافق وطنى ممكن يؤدى إلى تمثيل كافة قطاعات الشعب المصري العريضة من عمال وفلاحين ومهنيين وطلاب وأكاديميين وكافة التيارات السياسية والفكرية فى تلك المؤسسات من إسلاميين ويساريين وليبراليين وقوميين ومستقلين. هذا الاتفاق والوفاق الوطنى العام هو الذى يؤدى إلى إزالة الاحتقال والاستقطاب الحاد فى هذه المرحلة من الثورة المصرية المستمرة والتى لم تنته ولن تنتهى إلا بتغيير النظام البائد تغييراً شاملاً فلم يكن شعار الثورة العظيمة "الشعب يريد إسقاط النظام " من أجل الدخول فى مرحلة الفوضى أو عدم الاستقرار أو أن الشعب أراد إسقاط الرئيس وعائلته وحزبه فقط ولو أدى ذلك إلى إعادة انتاج سياسات النظام نفسها، وطريقته الأمنية والاستبدادية فى إدارة شئون البلاد أو استمرار نفس السياسات الاقتصادية والاجتماعية التى أفقرت الغالبية العظمى من المصريين الذين يعيشون حتى الآن تحت خط الفقر، أو أن الشعب يريد استمرار نفس التردى فى المرافق والخدمات خاصة فى قطاعات خطيرة كالصحة والتعليم والنقل والمواصلات، او أن الشعب يريد أن يتعامل معه الجهاز الإدارى البيروقراطى بنفس الاحتقار والإهمال والتسيب مما أدى إلى اغتراب المصريين فى بلدهم، ولا أتصور أن الشعب المصرى غير قادر على إعادة البهاء والرونق إلى شوارع مصر وميادينها فى كل قراها ومدنها بتنظيف الساحات وتنظيم جمع القمامة التى أدت إلى تشويه صورة مصر التى كان من أهم ملامح ثورتها النظافة فى ميادين الثورة المصرين جميعاً. لقد بدأت عجلة بناء المؤسسات تدور وتنطلق ،ورغم كل السلبيات التى يمكن أن تشوب الإجراءات التى تتم الآن إلا أن البدايات مبشرة ويمكن تصحيح الإجراءات الديمقراطية بالوسائل الديمقراطية، بالحوار والإقناع، بالتوافق والاتفاق ، بالانتخابات الدورية لتحسين الاختيار. لقد نجح الإعلام الباحث عن العناوين المثيرة فى تشويه صورة آخر انتخابات قاعدية فى نقابة المعلمين رغم أهمية الدلالات التى حملتها تلك الانتخابات وفى مقدمتها أمران. الأول: قدرة القوى الوطنية على اختيار قوائم توافقية. الثانى: وعى المعلمين بأهمية الانتخابات وحسمهم للقرار بهزيمة الذين احتكروا تمثيلهم بالتزوير لعقود وسنوات. لقد استطاع معلمو الإخوان المسلمين تقديم قوائم وطنية من أجل الإصلاح لم يكن لهم فيها إلا اقل من 40% ، ونجحت تلك القوائم هزيمة فلول النظام. فماذا فعل الإعلام إلا أن صبّ الزيت على النار ؟ فصوّر الأمر وكأنه اكتساح للإخوان ، وهو ليس كذلك ، ولم يصوّر الحقيقة وهى أهم الدلالات فى أن الشعب المصرى قادر على استعادة أحد أهم مؤسسات المجتمع المدنى من يد فلول الحزب الوطنى الذين دمّروا الحياة النقابية فى تلك النقابة العريقة منذ عقود طويلة ومنعوا المعلمين من اختيار ممثليهم بحرية. هذا نموذج يتكرر الآن فى معظم مؤسسات المجتمع المدنى والأهلى وستتوالى انتخابات النقابات المهنية ثم العمالية واتحادات الطلاب خلال الشهور القادمة متواكبة مع الانتخابات البرلمانية لمجلس الشعب والشورى ، ثم تأتى انتخابات الرئاسة واختيار الجمعية التأسيسية لوضع الدستور الجديد ويعقبها فى الغالب انتخابات المحليات. ونحن كمصريين جميعاً أمام اختبار جاد وحقيقى لاسترداد مصر من أيدى العابثين والمفسدين، مصر المؤسسات، المؤسسات الدستورية والمؤسسات المجتمعية، و بهما نستطيع بناء النظام الجديد الذى تتطلع إليه جميعاً كمصريين، نظام يحقق لنا الحرية والأمن والعيش الكريم والمكانة اللائقة بوطننا الحبيب بين الأمم جميعاً. هل نضيّع الوقت فى الجدل العقيم والنزاعات المستمرة، وعجلة الأيام تدور وتطحن المتأخرين عن اللحاق بركب العصر؟ واجب الوقت الآن هو التوافق الوطنى على استرداد مؤسسات مصر لتكون فى يد أمينة تمثل كافة قطاعات وتيارات المجتمع المصرى دون استثناء ، وتكون الغالبية فيها متجانسة فنقطع الطريق على الذين يريدون إعادة العجلة إلى الوراء أو إعادة إنتاج النظام البائد سواء بشخوصه أو بسياساته. ليس هذا أوان أى انقسام بين إسلاميين وعلمانيين، ليس هذا موعد الاختلاف بين ليبراليين ويساريين. واجب الوقت الآن هو أن نبنى مؤسسات مصر الدستورية والمجتمعية ليدور فى جوانبها حوار راقٍ يليق بثورة مصر من أجل بناء مصر وتحقيق حلم ملايين المصريين. التحالف الديمقراطى من أجل مصر والذى يضم الآن قرابة 40 حزباً من كل التيارات السياسية يمد يده للجميع من أجل إنجاز ذلك التوافق الوطنى والالتفاف حول برنامج إنقاذ وطنى للمائة يوم الأولى بعد انتخابات البرلمان وتشكيل الحكومة الجديدة، والاتفاق حول المبادئ الأساسية لسياسات الدولة المصرية فى السنوات القادمة فى مجال الاقتصاد والسياسات الخارجية والبناء الديمقراطى، وفى وثيقة التحالف الديمقراطى المعلنة منذ شهور ما يكفى للبناء عليه لمستقبل مشرق لهذا الوطن. وعلينا كمصريين أن ندرك أن تحقيق مطالبنا جميعها لن يتم إلا عبر تلك المؤسسات، فمن الذى يقرر توزيع موارد الميزانية؟ ومن الذى يراقب أداء الوزراء والحكومة مجتمعة؟ ومن الذى يسحب الثقة من وزير أو الوزارة كلها ؟ إذا كنا نريد بناء نظام ديمقراطى حقيقى، فذلك كله يجب أن يكون عبر مؤسسات دستورية منتخبة وليس للأفراد ؟ فقد مضى عهد الفراعنة وزمن الزعامات الشخصية.