يصادف 14 شباط الذكرى السنوية الأولى لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. عام على هذه الكارثة التي عصفت بلبنان, و التي أودت بحياة الحريري و مرافقيه بطريقة دراماتيكية, و بشعة للغاية عبر تفجير ضخم لم يشهد لبنان مثله منذ توقف الحرب الأهلية أوائل التسعينيات. السؤال البديهي الذي يطرح نفسه هنا هو: ماذا حقّق لبنان خلال هذه المدّة؟ و هل هو في طريقه لاستعادة وضعه الطبيعي؟ ماذا عن الحقيقة في مقتل الحريري؟ و ما هو مستقبل لبنان المنتظر؟ لا شك أن صدمة اغتيال الحريري كانت كبيرة جداً لدرجة أن تداعياتها تخطّت الحدود اللبنانية, و خرجت حتى خارج الإطار الإقليمي لتستنفر دولاً و منظمات دولية و تحقيقات قانونية. على الصعيد الداخلي الشعبي: لا شكّ أن الحريري كان شخصية ذات وزن و ثقل سياسي و اجتماعي مهم جداً, لدرجة أنّه حتى بعد سنة من اغتياله, نزل هذا العدد الغفير من الناس إلى الشارع في لبنان وفاء له. الموقف يكاد يكون واحداً لدى جميع الناس, حتى الذين كانوا معارضين لنهج الحريري إلا أنّهم لا يوافقون أبداً على مسألة الاغتيالات السياسية, و لا يرضون أن يتم تصفية الزعماء بناء على مواقفهم, لذلك فلا اختلاف بين اللبنانيين في وجهة النظر هذه, و معرفة الحقيقة مطلب جماعي غير مقصور على فئة معيّنة دون أخرى. على الصعيد السياسي: الوضع السياسي يختلف كلّياً عن سابقه؛ إذ يعاني الوضع السياسي اللبناني من عدم استقرار كبير جداً يهدد بانهيار ما تبقى من الدولة. السبب في هذا الانقسام يعود إلى عوامل عديدة, منها ما هو سابق لجريمة الاغتيال . و منها ما يمثل يعتبر تداعيات للحدث الكبير . كثيراً ما أسمع العديد من السياسيين, و حتى الناس العاديين يفتخرون بوجود تعدد سياسي في لبنان, فهناك تعدد لدرجة مفرطة, و المشكلة الكبرى أنّه لا يمكن اتّخاذ أي قرار مهما كبر أو صغر شأنه, إلا و تكون جميع هذه المكونات موافقة عليه, و في حال اعترض أحدهم فهذا يعني شلّ القرار!! و المشكلة الكبرى هي أن الانقسام بين هذه الفئات السياسية ليس انقساماً عرضياً أو طارئاً, كما أنّه ليس انقساماً حول أمور ثانوية أو شكلية. الانقسام هو انقسام خطير و كبير, و هو حول أمور مصيرية, و كل خيار له نتائجه و تداعياته, و من الممكن أن يقود البلد إلى مصير مجهول. الانقسام اللبناني-اللبناني الآن يدور حول الموقف من سوريا, و حول الموقف من التدخلات الخارجية الأمريكية و الفرنسية , و حول قرارات مجلس الأمن, و حول المحكمة الدولية, و حول سلاح حزب الله والمقاومة , و حول رئاسة الجمهورية, و حول الأمن الداخلي, و حول قضايا أساسية أخرى. على الصعيد الطائفي: هذا الانقسام السياسي لا بدّ و أن يتبعه انقسام طائفي بنفس الدرجة و حتى بنسبة أكبر؛ ذلك أنّ لبنان يتكوّن من إقطاعيات طائفية تدور في حقل سياسي, و عليه فإنّ كل زعيم سياسي يستنفر معه جماعته الطائفية. و إذا ما علمنا أن لبنان يحتوي على نحو (19) طائفة , و أن كل طائفة يقودها عدّة زعماء, و أنّ لكل زعيم حزب أو حركة, و أن لكل حركة مناصريها و توجهاتها؛ فإنّه يمكن تخيّل الوضع القائم في البلد, و الذي يهدد بالانفجار الداخلي, و لا ينقصه إلا الشرارة. كما أن الخطورة في الوضع الطائفي اللبناني تظهر عندما يتم شحنها سياسياً بالتصريحات و التهجّم المباشر و غير المباشر, و هو ما يثير الأحقاد الدفينة في نفوس اللبنانيين تجاه بعضهم البعض, و التي لم تزل -و إن ظهرت هذه الجموع الغفيرة متماسكة شكلياً- إلاّ أنّ الانقسامات فعلية و حقيقية, و تظهر عند أي اختلاف سياسي حول أي مسألة. على الصعيد الاقتصادي: الوضع الاقتصادي اللبناني يعاني من تشوهات حقيقية, و خلل واضح نتيجة التجاذبات السياسية و الأمنية الحاصلة في البلاد, فهو في النهاية انعكاس لهذين العاملين, لاسيما أنّ لبنان بلد يعتمد على السياحة و الخدمات, و افتقاده إلى الأمن و الأمان يعني انتفاء مقوماته الاقتصادية الأساسية. المواطن اللبناني يعاني تهميشاً اجتماعياً و بؤساً اقتصادياً على الرغم من المبالغ الخيالية التي تُصرف في لبنان, و يتم اقتسامها محاصصة بين السياسيين و زعماء الطوائف. و قد أصدر البنك الدولي منذ فترة قصيرة تقريره الفصلي عن الوضع الاقتصادي اللبناني, و الذي يشير إلى هدر كبير و عجز في التنسيق و الصرف, و إلى عدم اعتدال في توزيع الأموال على المناطق, و هو مؤشّر على غياب كامل لإستراتيجية تشمل القطاعات بأسرها. و السيئ في هذا الأمر الآن أن اللبنانيين إذا أرادوا أن يتركوا معالجة أوضاعهم الداخلية بانتظار تجلّي الحقيقة في مقتل الحريري, فإنّ هذا عامل سلبي يهدد بضياع القدرات الذاتية؛ لأنّ مسألة الحريري قد تطول و على الأرجح أنها ستفعّل. البحث عن الحقيقة: الكل يطالب بالحقيقة دون استثناء, أين الاختلاف إذن ؟! البعض من اللبنانيين يحاول استثمار هذه القضية في تحدّي سوريا على أساس أنها " المسؤولة عن اغتيال الحريري" و الغريب أنّ هذا البعض كان تحت وصايتها حتى الأمس القريب, و البعض الآخر تدفعه مصالحه و حميّته إلى الوقوف إلى جانبها في هذا الظرف العصيب, لاسيما أنها وقفت إلى جانبه عندما احتاجها. هذا الاستقطاب في مسألة الحقيقة يتم استغلاله خارجياً إقليمياً و دولياً. على الصعيد الإقليمي تحاول العديد من القوى استغلال نفوذها و مناصريها كورقة لصد الضغوطات الغربية التي تنهال عليها, لاسيما الموضوعات المتعلقة بإيران و سوريا, فيما تقوم القوى الغربية لاسيما أمريكا وفرنسا باستغلال هذه النقمة عند البعض الآخر من اللبنانيين على سوريا, و تقوم بتأجيج الموقف و النفخ فيه من أجل استغلالهم كورقة لإخضاع سوريا, و لنزع سلاح حزب الله, و بالتالي الحد من عناصر و أوراق اللعبة الإيرانية أيضاً في لبنان. بين سوريا و أمريكا, يبدو أن الحقيقة خاضعة لمعايير مثل تنفيذ سوريا للمطالب الأمريكية في العراق, والتزام إيران بموقف حيادي في المنطقة, و بالتالي فإنّ الباب أمام حصول صفقة تطيح بالحقيقة و التحقيق يظلّ قائماً. و اللبنانيون يتم التلاعب بهم و عبرهم إذا ما انجرّوا لهذا المنطق و الأسلوب في إدارة المشكلة. ما يجب القيام به هو أن يتم ترك التحقيق في مساره القانوني, و ألاّ تحدث تدخّلات من أي طرف لاستغلال أو تحوير ذلك التحقيق, و على اللبنانيين أن يصرّوا على تنبيه أمريكا بضرورة أن تفصّل قضية مقتل الحريري و التحقيق الدولي حوله عن أجندتها السياسية في المنطقة و مطالبها من سوريا و إيران في إطار حرصها على حماية المصالح الصهيونية . على اللبنانيين أن يعترفوا أنّه لديهم مشكلات داخلية كبيرة؛ لأنّ الاعتراف يعد مقدّمة لإيجاد الحلّ كما هو معروف, فعدم الاعتراف و تحويل الأنظار إلى سوريا في كل شاردة و واردة لا يخدم وضع لبنان, و لا مصلحته. على اللبنانيين أن يخففوا من نبرة التحدي لديهم , طالما أن مطلبهم بخروج السوريين قد تحقق, و أن ينصرفوا إلى معالجة مشاكلهم الداخلية و الكبيرة جداً, على أنّه مهما حصل فيجب ألاّ تكون فكرة العودة إلى حرب أهلية واردة لديهم؛ لأنّ الجميع سيخسر حينها, و سيضيع لبنان و اللبنانيون فيها. المصدر : الاسلام اليوم