بينما يوشك والد القاتل على الخروج حاملا "الكفن الأبيض" من قاعة مجاورة لسرادق صلح عرفي أقيم في مدينة الصفة بمحافظة الجيزة، ينتظر علي بعد أمتار شخص، هو "ولي الدم"، هذا الكفن بفارغ الصبر، ليوقف سعيه الدؤوب إلى الأخذ بالثأر لمقتل شقيقته، ويعفو عن قاتلها أو ممثل عائلته، "حامل الكفن". وتابعت وكالة "الأناضول" هذا المشهد من القضاء العرفي، أمس الأربعاء، وهو موروث يضرب بجذوره منذ عشرات السنين في صعيد مصر (الجنوب)، حيث العصبية العائلية والقبلية، وحيث لا تطفئ أحكام القضاء نيران الثأر، بل يخمدها "كفن" يقدمه القاتل إلى ولي القتيل ليعفو عنه. صمت مطبق يخيم علي سرادق امتلأ بمئات الحضور، ولم يقطعه سوى دعوة من رجل دين إلى إعلاء العفو والتكبير خلفه (الله أكبر)، محاولا التمهيد لإطفاء نيران الثأر المتوقدة في قلوب عائلة أبناء "أبو سنة"، التي قتلت لهم سيدة أثناء مشاجرة مع عائلة "أبو وتاب"، التي حبس نجلها القاتل بتهمة ضرب أفضي لموت بعقوبة 4 سنوات. لحظات من كتم الأنفاس، ثم يخرج عبد الحميد أبو وتاب، والد القاتل المحبوس، من قاعة اجتماعات صوب ممر يصل إلي منصة السرداق، مطرق الرأس، حاملا علي يده "كفن أبيض" (مثل الذي يُكفن فيه الموتى)، واضعا حياة ابنه بين أيدي عائلة القتيلة، وطالبا منهم العفو والحياة عن نجله، الذي سيخفف وفقا لقرار الصلح من العقوبة التي يقضاها فوق لإجراءات الطعن القانونية المتعارف عليها. ثم تحين لحظة المواجهة بين ممثل "القاتل" و"ولي الدم"، شقيق القتيلة، الذي تجاوز الأربعين من عمره. في خطوات ثقيلة يسير والد القاتل مسافة لا تتعدى الأمتار، لكنها تبدو طويلة للغاية، فيها تتعالى خفقات قلوب الحاضرين، وتختلط مشاعر الخوف والترقب، ليظهر والد القاتل بين أيدي عائلة القتيلة للمرة الأولي منذ قتلها وحبس نجله، قبل أكثر من 13 شهرا. يتهافت الحضور علي التقاط صور الوالد، الذي تحيطه حراسة من قوات الأمن، وهو يتقدم طالبا لابنه حياة جديدة. وكلّما تقدّمت قدما والد القاتل، شدت أنظار الحضور إلي لحظات تسليم "الكفن" فوق منصة عائلة القتيلة التي يجب أن تتسلمه، لينتهي السعي إلى الأخذ بالثأر كما هو متعارف عليه في القضاء العرفي، الذي يمهد للصلح بمناقشات ينتج عنها اتفاقيات ملزمة لطرفي الثأر والتزامات مالية، فضلا عن عقوبات مالية أيضا بحق من ينتهك الصلح. مجاهدا رغبته في الثأر، يحاول عبد الناصر أبو سنة، كبير عائلة القتيلة وهو علي منصة السرادق، ألا ينظر كثيرا إلى قاتل شقيقته، حينما يتقدم إليه في ذلته، كأنه في صراع أخير يتجلى أمامه بين القصاص والعفو. وهو صراع يحسمه صوت كبير عائلة "أبو سنة" بقبوله الكفن وإعلان العفو عن القاتل، قائلا: "سامحنا من قلبنا"، ثم أقسم بأن "الصلح لوجه الله بدون بقاء لحقد أو شيء من الدنيا". هنا، وكأنه أعاد والد القاتل لنجله روحه، فيما تستكمل منصة السرداق مراسم الصلح بطلبها من الحضور من العائلتين، التوجه نحو موائد الطعام للأكل معا، كتأكيد علي قبول الصلح، والإشارة إلي دفع دية مالية ربع مليون جنيه مصري (من أسرة القاتل لعائلة القتيلة. وليد سلام أحد الذين شهدوا مراسم الصلح ، قال للأناضول بدأ اليوم الخميس في قرية عائلة أبو سنة بالجيزة غرب القاهرة ، استقبال المعزين في مقتل شقيقته "لمدة 3 أيام" ، مشيرا إلي أنه سيتم توثيق الصلح بين عائلتي أبو سنة وأبو وتاب من أجل تقديمه للمحكمة للنظر في إمكانية تخفيف حكم الحبس الذي يقضاه نجل عائلة القاتل بعد تقديم الكفن والعفو أمس. "مشهد إذلال القاتل مع قبول كفنه لإنهاء الثأر يسهل الكثير علي ولي الدم"، بحسب ما يقول لوكالة الأناضول، إبراهيم بدر، وهو أحد أبناء قرية عرب الحصار التابعة لمدينة الصف، والذي حضر الصلح. بدر يرى أن "دخول الكفن علي يد القاتل ، وهو في حالة نفسية صعبة ومذلول، فيه احترام لأهل الدم، وتسهيل للعفو والصلح.. المجالس العرفية تسرع في إنهاء أزمات الثأر وتمنع زيادة القتلى من الطرفين مقابل المحاكم التي يطول فيها نظر قضايا الثأر". وهي تجربة يقول عنها عبد الناصر أبو سنة، كبير عائلة القتيلة، لوكالة الأناضول، إن "الجلسات العرفية ودفع الدية وتقديم الكفن مثال طيب لحل مشاكل الثأر، ويجب أن يعمم علي مستوي القرية والمحافظة، بل والجمهورية كلها". وعن صعوبة قبول الدية، يوضح أبوسنة أن: "ثأرنا له أكثر من 13 شهرا وفقدنا فيه سيدة، ولكن تدخل شخصيات محترمة ورجال دين ساهم في حقن الدماء، وكانت مسألة حقن الدماء صعبة جدا، خاصة وأن هناك شياطين أنس وجن يحرضون علي الفتنة بين الطرفين، لكننا أتممنا الصلح لوجه الله تعالي". ويدعو كبير عائلة القتيلة جميع من لهم ثأر إلى اللجوء للصلح سريعا بقوله: "أي شخص له ثأر ينظر لله ولبيته ونفسه، فليس الثأر إلا خراب للبيوت ودمار للشباب". والقضاء العرفي معروف في مصر وبعض البلدان العربية الأخرى، خاصة في المجتمعات القبلية، وهو وسيلة للتحكيم بين الخصوم، وأحكامه لها قوة الإلزام الفاعلة بين العائلات والقبائل، وأحيانا يكون موثقا من الجهات الأمنية في الدولة وينتشر في صعيد مصر الذي يغلب عليه العادات والتقاليد. وبخبرة 25 عاما، يري أشرف الحداد، وهو كبير لجان المصالحات العرفية في محافظة المنيا (وسط مصر) المنتمية للصعيد، في حديث مع وكالة الأناضول، أن "الجلسات العرفية تنجح في حل مشكلات كبيرة يعجز القانون عن حلها أمام المحاكم". وعن الجلسات العرفية للصلح، يضيف الحداد "هذه الجلسات تحدث توازنا بين العدل والفضل، ويكون الحل بتقريب وجهات النظر بين الطرفين.. الحل يكون بالفضل وليس بالعقل، فالجلسات العرفية لا تملك آلية العقاب كالمحاكم". وفي مصر تلجأ إليه الدولة أحيانا لفض منازعات بين عائلات كبيرة، لا سيما وأن منظومة القضاء العرفي فعالة جدا إذا قبل صاحب الحق بالعفو والتعويض المالي، ولا يتضمن القضاء العرفي عقوبات الموت ولا الإيذاء الجسدي ولا عقوبات سالبة للحرية كالسجن.