عندما كنت ادرس العلوم السياسية كانت هناك مقولة شائعة يرددها علينا أساتذتنا تقول :"إن لم تكن شيوعيا وأنت في العشرين فأنت بلا قلب ، وإن بقيت شيوعيا حتى الأربعين فأنت بلا عقل". والحقيقة أني خضت هذه التجربة في حياتي الشخصية ولكن (وهذا موطن العجب) قبل المراحل العمرية المشار إليها في تلك المقولة فقد انتميت إلى منظمة الشباب الاشتراكي وأنا في المرحلة الإعدادية، وكنت قارئا للأدبيات الاشتراكية والماركسية والدوريات اليسارية في مصر مثل مجلة "الطليعة" و"دراسات اشتراكية" وصحيفة "الأهالي" وأنا في المرحلة الثانوية، وأواظب على حضور ما يتاح لي من فعاليات حزب التجمع. ولكنني في الحقيقة كنت محظوظا لأنني ركبت قطار اليسار في عربته الأخيرة أي (السبنسة)، أو كما يقول المثل الحجازي "رايح يحج و الناس راجعين"، فقد وقعت تلك الأحداث التي سردتها آنفًا في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، تلك الفترة التي استفاد السادات من نصره في أكتوبر في تحجيم التيار اليساري في مصر، وأسهمت آفاق الحرية المحدودة التي فتحها في إعادة طرح الفكر الإسلامي (الذي كان مغيباً عن الساحة المصرية) من جديد فما أن وصلت إلى الجامعة في أواخر السبعينيات قدر الله لي أن أميل لهذا التيار الإسلامي (على تفاصيل قد يتاح المجال مستقبلا لبسطها) وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ثم لم تلبث الشيوعية بعد سنوات قلائل حتى تهاوت في أقوى معاقلها واحدًا تلو الآخر، وهرولت الشعوب التي كانت ترزح تحت نيرها باتجاه الغرب الإمبريالي الرأسمالي. فما الذي ذكرني بهذه التفاصيل بعد ثلاثة عقود من الزمان وجعلني أشغل وقتكم وأصدع رؤوسكم بها؟، منذ أقل من شهر كنت عائدا من البرازيل بعد المشاركة في مؤتمر نظمه مركز الدعوة الإسلامية في دول أمريكا الجنوبية والكاريبي، كانت رحلتي من ساو باولو إلى الدوحة تستغرق ست عشرة ساعة من الطيران المتواصل (نعم 16 ساعة)، ولَكُم أن تتخيلوا كيفية قضاء هذا الوقت الطويل مهما نمت واستيقظت ومهما حاولت شركة الطيران توفيره لك من وسائل الراحة والترفيه. في الطائرة كان لكل مقعد تلفزيون مستقل يختار الراكب منه ما يشاء من المواد المتنوعة المقسمة حب اللغات، وكانت المواد العربية كثيرةً جدًا حتى حيرني الاختيار و استقريت في الأخير على أفلام يوسف شاهين التي كان عدد لا بأس به منها مدرجاً على القائمة؛ فقد كنت (وما زلت) من المعجبين هذا المبدع المتميز، فبادرت بمشاهدة بعض أفلامه التي لم تتح لي فرصة مشاهدتها من قبل، ثم وجدت على القائمة فيلم "عودة الابن الضال" وتذكرت أنني شاهدت هذا الفيلم مرة واحدة فور عرضه لأنني كنت شغوفاً به ومعجباً بطرحه، فوجدتها فرصة لأستعيد ذكرياتي باستعراض سريع لبعض مقاطعه خاصة تلك التي تشتمل على تغريد الكروان "ماجدة الرومي"، ولكنني ما أن بدأت تشغيل الفيلم حتى وجدت نفسي أشاهده من جديد بالكامل، أشاهد فيلماً آخر بفكر آخر وعين أخرى، فبقيت معه من أوله لآخره مع تركيز شديد مع كل مشهد وكل فكرة، وأنا مندهش تماماً كيف أسرني هذا الفيلم عندما شاهدته في شبابي!. بالطبع لا أجادل في التقنية الحرفية العالية للفيلم وتميز العاملين فيه؛ ولكن المشكلة أن الفيلم مغرق في الماركسية بصورة فاقعة تعكس ربما فكر متطرفي الماركسيين اللذين تحطمت دعاواهم على صخور التطبيق العملي، فالفيلم يعرض صورة سوداوية قاتمة تفقدك الأمل في كل مكونات المجتمع فرجل الأعمال مستغل مصاص دماء، وموظفو الحكومة عاجزون ومتواطئون، والنقابات مُشتراة وممالئة، والمعارضون مُخترقون بالمندسين؛ وحتى المعارض الإصلاحي الذي طال انتظارهم له فهو ضعيف متردد لا رجاء فيه، وبالتالي ينحصر الأمل الوحيد في التغيير فقط في المعارض الثوري (الراديكالي) ذي العقلية الانقلابية. رحلتي انطلقت من أمريكا اللاتينية التي كانت مرتعاً للفكر اليساري وما زال ينظر إليها منظرو "اليسار الجديد" كأنسب المحاضن لمستقبل هذا الفكر رغم أنني عبر زياراتي المتكررة للبرازيل استشعرت سعادة المواطنين ومن ألتقيه من مواطني الدول المجاورة بالانعتاق من ربقة الشيوعية، ووصول الحكماء من قادتهم مثل "لولا دي سيلفا" إلى صيغة من الاشتراكية التي تسعى لإحداث نهضة تنموية شاملة في المجتمع؛ وليس فيها أي ملامح ماركسية، وبالمقابل نقمتهم الشديدة على القادة الذين لا يزالون يتعلقون بأهداب هذا الوهم الزائف وما أوصلوا بلادهم إليه من تردٍ. وبعد عبور المحيط مررنا على أوربا الغربية التي استطاعت أن تتجنب الفكر اليساري بذكاء اقتبس أجمل ما فيه من حقوق للعمال وتفادى أسوأ ما فيه من مصادرة للأملاك وإحباط للمواهب وتوريث للبلادة. ثم مررنا على أوربا الشرقية التي لم تزدها سبعة عقود من الشيوعية سوى فساداً وقمعاً وتأخراً وتخلفاً؛ حتى خرجت من أسر هذا السجن فعرفت الوجه المشرق للحياة، ثم مررنا على الوطن العربي الذي تلاعبت به أنظمته الحاكمة فتقلبت بلدانه بين اليمين واليسار وقادها هذا التقلب من فشل إلى فشل حتى تذيل العالم. بعد أن رأيت فيلم "عودة الابن الضال" من جديد بعد هذه العقود علمت لماذا فشلت الماركسية، وحمدت ربي أنني لم يطل بي البقاء في ربقتها؟، ولكن الذي لم يتغير في رؤيتي للفيلم هو إعجابي الشديد بالإبداع المبهر للعملاق محمود المليجي رحمه الله