في الجزء الثالث من هذه الدراسة تبين لنا أن مفهوم الدولة المدنية في المصطلح الغربي ليس هو الوصف المطابق تماما للدولة المدنية في المفهوم الإسلامي ، وإنما هو قريب منه فبينهما اتفاق واختلاف . نقاط الاختلاف: أن مفهوم الدولة المدنية في المصطلح الغربي هو نقيض الدولة الدينية عندهم بمعنى أن الدولة المدنية دولة لا دين لها ،أي أنها دولة علمانية بالمفهوم الغربي ،بينما الدولة المدنية في المفهوم الإسلامي أيضا ليست دولة دينية ، ولكنها دولة لها دين هو من أهم ثوابتها ومكوناتها التي تمثل الأركان الرئيسة وهى على الترتيب : أمة لها السيادة فهى مصدر السلطات ، وهى ملزمة بأن تتشاور وتختار من يتولى إدارة شئونها وتختار أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه ،قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أيها الناس إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه)، أي أحسنهم سياسةً وأكثرهم علماً وأحرى بالتدبير، فالحاكم هنا رجل سياسة وليس شيخا دينيا ، وقرارته تبنى على الشورى وتخضع لتقدير العقل والمصلحة وحماية ثوابت الأمة وهويتها ، ومن ثم فلا استبداد ولا دكتاتورية، والمثال والنموذج في ذلك الشأن قدوة لا يختلف عليها اثنان وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكر الإمام ابن حزم الأندلسي في كتابه الإحكام في أصول الأحكام في الجزء السادس من المجلد الثاني الباب الخامس والثلاثون ص 27 أن عليا كرم الله وجهه ورضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قائلا :يا رسول الله : الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم يمض فيه منك سنة ! قال : إجمعوا له العالمين أو قال العابدين من المؤمنين ، فاجعلوه شورى بينكم ، ولا تقضوا فيه برأي واحد " وقد كان صلي الله عليه وسلم وهو رئيس الدولة لاينفرد بقرار دون الرجوع إلى المؤمنين ومشاورتهم، ولا يستطيع أن يُؤَمِِّر أميرا دون مشورة المؤمنين. جاء في مسند الإمام أحمد حديث رقم 566 عن علي قال: قال رسول الله صلى الله سلم : "لو كنت مُؤَمِّرًا أحدا دون مشورة المؤمنين لأمَّرْتُ بن أم عبد" والمعنى نفسه أورده الترمذى في سننه باب المناقب حديث رقم 3809 عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو كنت مُؤَمِّرا أحدا من غير مشورة لأمَّرْتُ ابن أم عبد" ثم يقول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : "وأيم الله لو أنكما تتفقان لي علي أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبدا " الشاهد هنا أنه عليه الصلاة والسلام وهو المعصوم يخضع في الأمر السياسي لرأي الأغلبية ولو كانت تشكل اثنين لواحد . حاكم يمثل الدولة والنظام وينوب عن الأمة في الدفاع عن الدين ورعاية مصالح الناس و وتحقيق العدل والأمن وحماية الوطن ، والأمة هى التى تُوَلِيه عن طريق مؤسسات دستورية تنظم عملية الاختيار، ببيعة صحيحة لا مزورة عن طريق الشورى أو بالاختيار الحر . والأمة أيضا هى التى تعزله عند الضرورة إذا فسد وأفسد وتجاوز وفق الضوابط المعروفة، وفيها شريعة والأمة مستخلفة في تطبيقها، والشريعة هى التى تمثل العقد بين الأمة والحاكم ، وتحدد الحقوق والواجبات بنصوص الشرع والعقل والمصلحة ، وجوهر النظام فيها والسمات الأساسية لها هى الشورى والاختيار الحر . في الدولة المدنية بالمفهوم الإسلامي يتمتع الجميع بحرية العقيدة ،ويتقاسم الجميع مسؤولية حماية الدولة داخليا وخارجيا ، ففى الداخل يؤمن الجميع أن التعددية هى مصدر ثراء لا صراع ، ويكون الآخر المختلف معك دينا وعقيدة أخ لك في الخلق وشريك لك في المواطنة ونظير لك في الإنسانية ،واختلاف الدين لا يكون سببا في التمييز بين الناس في الحقوق والواجبات ؟ وهكذ ا كان الأمر في دولة الخلافة والذى كان امتدادا طبيعيا لعصر النبوة ،فالخلفاء الأربعة لم يتم اختيارهم على أنهم أكثر الناس فقها ، وأول الخلفاء بعد رسول الله هو بكر الصديق رضى الله عنه ولم يتم اختياره على أنه أعلم الصحابة بالدين ، فقد كان في الصحابة من هو أعلم بالدين منه ، كعلى بن أبى طالب وهو أعلم الصحابة ، وكان هناك معاذبن جبل وهو أكثر شباب الصحابة فقها في الدين ، وكان هناك عبد الله بن مسعود وهو أقرأ الناس للقرآن الكريم ،فَلَو كانت المسألة دينية لحكمها أكثر الناس فقها ، وبالتالي فالقيادة في الدولة الاسلامية تكون لأهل القدرة والكفاءة، وطبيعي جدا أن تكون تقوي الشخص واستقامته أحد المرجحات ، وأحسب أن هذه إحدى صفات الإنسان السوى في كل الدنيا عموما وليس الملتزم دينيا فقط ، والتقوى والاستقامة هنا واحدة من مجموع شروط لابد من توفرها، وهذا يعنى ببساطة شديدة أن الشخص قد يكون فاضلا ومتميزا في شئ ومفضولا في شئ آخر ، ومن المعروف أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيدنا أبو بكر وبعده في ترتيب الافضلية سيدنا عمر، وهما معا صهرا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضاف إليهم أمين الأمة أبى عبيدة بن الجراح وهؤلاء من كبار الصحابة دينا ومقاما وأسبقية في الإسلام ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات السلاسل أمَّر عليهم عمروبن العاص وكان قد أسلم قبلها بعام واحد ، و جعله الرسول قائدا عليهم ، وكانوا جنودا في جيش عمرو بن العاص ،وتحت إمرته ، فأين هى الدولة الدينية التى صدع الرفاق رؤوسنا بالحديث عنها والتحذير منها ؟ يذكر أيضا في هذا المجال أن بعض تصرفات عمروبن العاص كانت لا تعجب عمربن الخطاب فيذهب إلى بكر يشكو له فيقول له أبو بكر :يا عمر إلزم حدك فقد أمَّره رسول الله علينا، فيسكت عمر . ويقول عمروبن العاص منذ أسلمنا أنا وخالد بن الوليد لم يؤمِّرْ علينا رسول الله أحدا في أمر عسكري ، وإنما دائما يجعلنا أمراء ، لماذا ؟ لان ولاية أمر الناس في شأن الحكم والسياسة في ظل الدولة الاسلامية تقوم على استثمار للكفاءات والقدرات وليس على التدين والفقه فقط ، وقد يكون أكثر الناس طاعة أقهلم فهما وقدرة في شأن الحكم والسياسة كأبي ذر الغفاري مثلا . يقول الإمام ابن تيمية : قد ولى الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض الولايات خالد بن الوليد ، وفي الصحابة من هو أفضل منه، كأبي ذر ، وفلان وفلان، وخالد أجدر بالإمرة، وأقوى في تنفيذ الأوامر، وأحسن سياسة، فولاه عليه الصلاة والسلام وقد ورد في صحيح مسلم بشرح النووي حديث رقم 1825 باب كراهة الإمارة عن أبى ذر قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني قال فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها. " ولذلك يقول إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رضى الله عنه " كم من أخ لى في المدينة أرجو دعوته ، ولكنى لا أقبل شهادته !!! ومن هذا نفهم أنه ليس بالضرورة أن يكون كل عابد متدين أهلا لتحمل أعباء مسؤولية الحكم ، وإنما يكفى في الحاكم من حيث الدين أن يكون طائعا لله ليكون مطاعا في الخلق بجانب القدرات والكفاءات الآخرى التى تمكنه من حماية الأمة بشرا ودينا وقيما ووطنا وكرامة، وإذا كان نقل شهادة أمام القضاء في نظر الإمام مالك يقتضى حالة من الوعى والإحاطة والإدراك العالى تحقيقا للعدالة وهى شروط لابد أن تتوفر في الشاهد فما بالكم بمن يتولى إقامة العدل كله في كل الدولة ؟ ومن ثم فمعيار الاختيار هو الكفاءة ومنها الاستقامة بالطبع في المجال الذي يطلب إليه أن يتولاه.ولا يصح هنا عند اختيار مثل هذا الشخص أن يقال دولة "دينية" أو "دولة مشايخ" ، لأننا لا نعرف نظاما سويا في الدنيا كلها يبحث عن الفاسدين ليوليهم أموره ، ومن الواجب كما يقول الراحل والرائد القانوني المعروف الدكتورعبد الرزاق السنهوري أننا " لابد أن نؤمن بالاستقامة قبل أن نبدأ العمل فلا خير في جهد زاملته الخطايا". ، نؤكد مرة أخرى على أن الدولة الدينية لا وجود لها في الرؤية الإسلامية وليس هناك من سلطة دينية في الدولة الإسلامية غير سلطة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهى سلطة لا إخضاع فيها ولا إكراه وهذا أمر نص عليه الإمام محمد عبده وهو يؤكد على مدنية السلطة في الإسلام فيقول:"ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أعلاهم كما خولها الأعلى ليقرع بها الأدنى. أما في شؤون الدين فلكل مسلم أن يفهم عن الله، في كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله، بدون توسط أحد من سلف ولاخلف “. وقد يسأل سائل أين إذن موقع العلماء والفقهاء ؟ والإجابة أن الإمام مالك ابن أنس كان في المدينة (93 179ه / 795م) والإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفيّ (80 150 ه 699 767م ) كان في الكوفة بالعراق والإمام الشافعى (150 - 204ه / 767 – 820م ) كان في مصر ومكة وهو أحد الائمة الأربعة هاشمي قرشي يلتقي نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف. والإمام أحمد بن حَنْبَل (164 241 ه 780 855م ) كان في العراق فهل أحد من هؤلاء تولى الخلافة ؟ بالقطع لا مع أنه كان يستطيع ،لأن معايير اختيار الخليفة ليست على أساس دينى، وإنما هى القدرة على إدارة شؤون الدولة وتحقيق مصالح الناس وحماية الدين ، إذاً لو أن الدولة الاسلامية دولة دينية لكان كل واحد من هؤلاء هو الحاكم في عصره وزمانه، ولكن ذلك لم يحدث لأن الدولة وبالمفهوم الإسلامي الصحيح مدنية بامتياز وجوهر النظام فيها يقوم على العدل والحرية والمساواة والاختيار الحر وحماية كرامة الإسان، فلماذا يكون الإصرار والخلط المتعمد بين المفهوم الكنسي للدولة الدينية وبين رؤية الإسلام في شكل نظام الدولة ؟ وهل يظل عويل النخب وفحيح سمومهم يحجب ضوء الحقيقة ويثير حولها لغط الخوف من كل ما هو إسلامي ولو كان يحمل لنا كل وسائل الإغاثة والإنقاذ....؟ على كل حال لقاء الخاتمة من هذه السلسة سيحمل لأصحابنا بشرى تتضمن أقوالا في موضوعنا لرموز يقدسونها ويتجهون إليها لأنها تشكل لهم كعبتهم الثقافية وربما كان في تلك الأقوال ما يحمل لهم مفاجآت غير سارة ويظل السؤال يتكرر هل ستتغير أفكار الرفاق والنخب يا ترى؟ أم تظل حناجرهم تهتف بشعار البؤس واليأس : يسقط يسقط حكم المرشد.؟ وقانا الله وإياكم شر عاهات الفكر ،وعسكرة الثقافات ، وتزوير الهويات ،وعهر السخافات.