بعيداً عن التعليق على ماهية الحكم القضائي فيما يعرف بقضية محاكمة القرن، الصادر عن محكمة جنايات القاهرة، والذي أسفر عن براءة الرئيس المخلوع مبارك وولديه ووزير داخليته ومعاونيه من كل التهم المنسوبة إليهم، وفي كل الدعاوى التي تم تحريكها ضدهم، إلا أن ثمة ملاحظات كثيرة، تراءت لنا بعيداً عن مضمون الحكم، والتسبيب القانوني الذي استندت إليه المحكمة، فيما ذهبت إليه من قرار، من أهم هذه الملاحظات: أولاً: الإشكالية الكبرى في محاكمة الرئيس المخلوع كانت ولا زالت في نوع المحاكمة التي يُحاكم بمقتضاها، والنصوص القانونية التي يخضع لها. فكان التردد الشديد ابتداء بين محاكمته إما ثورياًوإما جنائياً. هل يحاكم ثورياً بعيداً عن النصوص القانونية القاصرة التي لا تتضمن تنظيماً خاصاً بمحاكمته، وبخاصة أن أغلب سمة جرائمه سياسية. أم يحاكم جنائياً، وبخاصة أن الدول الأجنبية التي أقرت بوجود حسابات بنكية خاصة به لديها اشترطت محاكمته وإدانته قضائياً وليس ثورياً. وقد استبد الأمر بالبعض لدرجة محاولة استدعاء قانون قديم لم يطبق بالفعل صدر إبان الوحدة بين مصر وسوريا. فكان الحل الأسهل هو محاكمته جنائياً حتى لا يفلت تماماً من العقاب، ومن ثم يتوافر سند قضائي للمطالبة بالأموال المهربة في الحسابات السرية.
ثانياً: ردد البعض في ظل الانفعال الشديد، وتأثير الحِراك الثوري الجامح إمكانية إصدار تشريع جديد يُحاكم به الرئيس المخلوع، غير أن ذلك غير جائز قانوناً بالمرة؛ استناداً لمبدأ قانوني راسخ، يقضي بأن القانون الجديد لا يسري إلا على الوقائع التي تقع بعد سريانه وإعماله، ولا يجوز تطبيقه بأثر رجعي على الوقائع التي تمت قبل نفاذه كأصل عام؛ وذلك تحقيقاً لاعتبارات العدالة، والمنطق القانوني السليم؛ فلا يُسوغ إخضاع الشخص لقانون لم يُحط علماً به مُسبقاً.
ثالثاً: فاجأ رئيس المحكمة الجميع بقوله أن مبارك خدم مصر ثلاثين عاما، أخطأ فيها وأصاب، وأنه كان يتعين محاكمته سياسياً وليس جنائياً!!! ودون مساس بتسبيب الحكم وعزوه لذلك في شقٍ من أسباب البراءة، غير أن هذا ليس صحيحاً على إطلاقه، والتسليم به كان يعني غلق الباب تماماً دون محاكمة الرجل. ففي ظل غياب النص القانوني المنظم لمحاكمة رئيس الجمهورية سياسياً، كان الاضطرار إلى محاكمته وفقاً لقانون العقوبات، وبخاصة أنه قد حُوكم جنائياً بالفعل في قضية القصور الرئاسسية، بل وأُدين فيها بالحبس ثلاث سنوات.
رابعاً: رئيس المحكمة وبالمخالفة للأعراف القضائية المستقرة قدم الشكر والتحية لأحد أطراف الخصومة ممثلاً في النيابة العامة!!! رغم أن ظروف وملابسات القضية برمتها قد كشفت عن وجود تقصير ما في جانب النيابة العامة؛ فالمحكمة اعتمدت في حكمها ببراءة مبارك من تهمة قتل المتظاهرين على موقف النيابة العامة،والتي كانت قد حفظت التحقيقات ابتداء ضده، وقضت بألا وجه لإقامة الدعوى، ثم عادت تحت ضغط الأحداث لتحرك الدعوى الجنائية ضده من جديد. ومن ناحية أخرى يحق للشعب الذي تمثله النيابة العامة أن يسأل لماذا تم التقاعس في تحريك الدعوى الجنائية الخاصة بقضية الغاز والرشوة حتى اِسْتُنفد ميعاد تحريكها، ومن ثم انقضت، وهل تم مسالة من تسبب في ذلك؟
خامساً: بقيت لقضايا مبارك وأعوانه جولة أخيرة أمام محكمة النقض، إذ كلف النائب العام مكتبه الفني فعلياً بدراسة وصياغة طعن على الأحكام خلال ستين يوما، حيث تصبح القضية حينئذ ملكاً لمحكمة النقض بشكل كلمل. فإن قبلت الطعن شكلاً ورفضته موضوعاً، أضحى الحكم باتاً يحوز حجية قضائية كاملة، وكذلك الحال إن قبلت الطعن بالنقض شكلاً وموضوعاً، وتصدت لنظر القضايا، وفصلت فيها، وانتهت إلى تأييد أحكام البراءة، حينئذ على مصر أن تستخرج شهادة وفاة لأموالها التي نُهبت، وهرُبت.
سادساً: ثمة أمر آخر استلفت انتباهنا، نعلم أنه قد لا يكون مقصوداً لذاته، غير أنه وللأسف الشديد صار سمتا مميزا في تعاملات القضاة ورجال النيابة، لكنه دون شك يخلق مساساً ويوجد انتقاصاً بغيرهم من فئات المجتمع المصري، فقد خاطب رئيس المحكمة من فوق منصة الحكم زميليه عضوي الدائرة وممثلي الادعاء بلفظ " البكوات"، وفضلاً عن أن ذلك لا يجوز دستورياً بنص المادة 26 من الدستور الجديد، والتي تُحرم إنشاء الألقاب والرتب المدنية، فإنه أمر محل تحفظ كبير من شعب يعاني من التمييز أصلاً في كثير من الوجوه، وللأسف مثل هذا الأمر اللفظي العابر صار له مردود مجتمعي يشعر الناس بوجود طبقية مقيتة تخالف الدستور قبل القانون. سابعاً: رئيس المحكمة وبالمخالفة لنص المادة 73 من قانون السلطة القضائية أبدى رأياً سياسياً صِرفاً في ثورة يناير وثوارها، من فوق منصة الحكم، وفي مَعْرِض تسبيب الحكم، وهو الأمر المحظور عليه صراحةً بالنص القانوني. وأكثر من ذلك أن تضمن رأيه السياسي نقداً وقدحاً في الثورة، وثوارها، اتهاماً ولوماً، وكأنه يدين الشعب المصري كله على خروجه على ظلم وفساد حكم مبارك. كماتبدى رأيه السياسي واضحاً أيضاً من فوق منصة القضاء حين تحدث صراحة وعلى وجه القطع أن الثورة قد انتهت في 30 يونيو، وأن البلادقد دخلت بموجبها وآثارها مرحلةالدولةوالدستور!!!وكان يتعين على هيئة المحكمة الرجوع ابتداء إلى ديباجة الدستور الجديد؛ ليقرأوا ما سطرته عن مجد ثورة يناير ودور الفخار لثوارها.
ثامناً: إن كان الحكم قد انتهى إلى براءة مبارك ورجاله، وتوصية الدولة بكفالة وتعويض مصابي يناير، فإنه قد أسدل الستار دون إجابةٍ بعد عمن قتل شهداء يناير الذين وصفهم رئيس المحكمة بالقتلى!!! غير أن ثمة أثر أهم وأعظم في اعتقادي لهذا الحكم يتمثل في أنه قد يكون سبباً فاعلاً في اصطفاف ثوري جديد لكل أطياف الشعب، يقوده شباب الوطن، النابض، الحالم بالحرية والكرامة والعدالة؛ لتحقيق أحلامهم هذه.... وسلامٌ على الشهداء الأبرار.