اليوم في وقت الظهيرة في تلك المدينة.الساعة تقارب الثانية عشرة ظهرا في مثل هذا الوقت يأتي معظم الناس يختطفون ساعة منه لقيلولتهم بعد الغذاء ثم لا يلبثوا أن ينهضوا إلا دوامهم الثاني بسرعة ، إن هذه الساعة من القيلولة مهمة ، فيها راحة مؤقته للجسد من فرط العناء اليومي. ومن ثم استعادة المعاناة .. كما قال ابن مسعود : لا راحة للمؤمن دون لقاء الله . أهل حينا على غير العادة خرج اغلبهم إلى المدافن لإيداع احد أبنائهم الذي اختطفه الموت حفرة فيها. حمل على الأكتاف إلى المدفن ، وهناك تجمع البعض حول المقبرة والبعض الآخر جلس مثلي إلى حائط سور المقبرة يراقب القبور المتراصة .همست لنفسي ، هنا عظة من لا يتعظ ، القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ،إن النظرة بتأمل في هذا المكان تهمش الحياة الدنيا. فالحياة الدنيا بثقلها المادي وبريقها الأخاذ وترفها المتخم تصبح هنا بلا جدوى وبلا ثمن اللهم إلا ما كان لله ولمرضاته. كثير من الناس يقف في هدوء لا يسمع لهم صوت اللهم إلا صوت الشيخ الملقن ، وهذا الحانوتي الذي يقوم بعمله في انسيابية وتناسق رهيب ، من فرط الخبرة ،البعض خلال هذا الصمت يعمل جدوله للديون وصياغة للحساب يتذكر حاله أثناء تلك النقلة إلى عالم البرزخ وهو حساب يسيطر على الذهن بصورة عفوية فلا بد لكل من دب فوق الأرض أن يحمل على الأكتاف ويدس في القبر ويتم السؤال ..ولا يعصم من هذا الموقف إلا الأنبياء والصديقين والشهداء ، هؤلاء الشهداء الذين يغفر لهم مع أول دفقة من دمائهم لذلك كان خيار الشهادة لا يقبل عليه إلا الأسخياء فهو قد باع كل شئ لله : (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة : 111 ) فهو قد باع المال ، والنفس، والروح لله وهذا السخاء البشري يقابل أيضا بسخاء من قبل الله تعالى بجنة عرضها السماوات والأرض. نعم الوقوف في المقابر والتأمل في الآخرة يحدث شيئا من كشف الغشاوة عن البصائر والأبصار ، إنه يحدث زلزلة في الجهاز العصبي وميزان العاطفة ، ينصرف ذهن البعض إلى الحساب الأخروي والأسئلة المصيرية عن المال والعمر والشباب والدين . وكانوا جميع يستمعون إلى صوت الشيخ الملقن من بداية : اسمع يا عبد الله إلى أن قرآنا الفاتحة على روح الميت ، لم نكن نسمع إلا حركات الحانوتي ، البعض بدأ يأخذ طريقه إلى خارج المقابر لتقديم العزاء ، وقبل أن يخرج الجميع سمعنا جلبة في المقابر، وبدأ الناس يتجمعون ويلتفون لحل النزاع ، لقد كان القبر في حاجة إلى قليل من الرمل ليسد ثغراته، فذهب الحانوتي إلى القبر المجاور وكان مفتوحا ومالكه يقف إلى جواره بالصدفة ، فما كان من صاحب القبر الذي لم يمت بعد إلا ان نهر الحانوتي .فكيف يجرؤ 0،ذلك الحانوتي على جلب بعض الرمال من مقبرته التي لم يدفن فيها بعد ، نعم ، هكذا الدنيا يدافع عنها البعض حتى ولو كانت حفنات من الرمل او التراب ستسد ثغرة في قبر أخيه المسلم ، ورحم الله الشهداء الأسخياء الذين لم يتثاقلوا إلى الأرض والطين فكان مكانهم في عليين