قبل ثلاثة وأربعين عاما, وفي مثل هذه الأيام تعرضت مصر والامة العربية كلها لهزيمة نكراء. فقد هاجمت إسرائيل القوات المصرية في سيناء والقوات السورية في الجولان واحتلت الضفة الغربية التي كانت تحت إدارة أردنية, ومن يومها ضاعت القدسالشرقية بكل ما فيها من مقدسات إسلامية ومسيحية. وبالرغم من طول المسافة الزمنية التي تفصلنا الآن عن يوم هزيمة يونيو1967, وبرغم الانتصار العسكري الذي حققته القوات المصرية ومعها القوات السورية في اكتوبر1973, ثم خطوات مصر السياسية بداية من نوفمبر1979 والتي انتهت بتحرير كامل سيناء في عام1981, فإن ذكريات الحزن والألم تظل كامنة لدي هؤلاء الذين عاشوا تلك المحنة الكبري, سواء كانوا من المسئولين في هذه الأيام أو من الناس العاديين الذين دفعوا بدورهم ثمنا كبيرا بعد الهزيمة وحتي تحقق نصر اكتوبر73. فالكثير من الحقائق التي أحاطت بهذه الهزيمة ما زالت في طي الكتمان. ورغم كثرة ما كتب من مذكرات لقادة عسكريين أو مسئولين سياسيين أو صحفيين, فإن صورة ما حدث تبدو غائمة, لاسيما لدي الأجيال الجديدة التي لم تعد تعرف الكثير عن تاريخ بلدها وعن تضحياته وعن معاناته وعن قدراته في تحويل الهزيمة إلي انتصار مازلنا نعيش علي نتائجه السياسة والعسكرية حتي اللحظة. أستطيع أن اقول إن مذكرات المسئولين, والتي اهتمت بتوضيح المواقف الشخصية تجاه تطورات معينة, وذكر بعض الحقائق دون غيرها, لا تعبر عن حقيقة ما جري, لاسيما ما حدث في نفوس المصريين البسطاء الذين خرجوا في مثل هذا اليوم التاسع من يونيو, وهم في حالة هياج هيستيري وقلق عارم يطالبون فيه الزعيم عبد الناصر بألا يترك موقع القيادة وأن يستمر متحملا مسئوليته في قيادة البلاد وإخراجها من نكستها التي جاءت كالصاعقة وكشفت عن عورات كثيرة في أسلوب الحكم وإدارة الجيش والسياسة معا. حكايات الناس العاديين لاسيما في مدن القناة الثلاث الذين اضطرتهم نتائج الحرب إلي الهجرة منها, إلي محافظات وقري ومدن أخري في طول مصر وعرضها, وكل منهم يسطر قصة إنسانية رائعة في تفاصيلها وفي تضحياتها وفي معانيها, لم تجد من كتاب القصة والرواية أو حتي المؤرخين الاكاديميين أي اهتمام أو اعتبار. وحتي علماء الاجتماع لم يتركوا لنا الكثير عن تأثير الهجرة علي المجتمعات المحلية التي استقطبت الكثير من أبناء مدن القناة. ولم يتابعوا أيضا ما جري في مدن القناة بعد أن تقرر عودة ابنائها في عام1974 في ظل وقف إطلاق النار الاول الذي كان بمثابة هدنة مؤقتة آنذاك. بعض حكايات بسطاء المصريين إن رويت الآن تفوق كل خيال. وبعضها ينطوي علي بطولة فذة وروح تضامن فطرية, من الصعب أن نجد لها مثيلا الآن. نعرف جميعا أن قرارا بالانسحاب للجيش المصري قد أتخذ مساء الخامس من يونيو بعد أن دمر الطيران الاسرائيلي المطارات والطائرات المصرية فجر هذا اليوم البائس. وما كان علي الجنود المصريين إلا أن يسيروا عبر دروب سيناء الوعرة ودون أدني حماية جوية لكي يصلوا إلي القناة, ليحاولوا بعد ذلك عبورها إلي الجزء الغربي حيث الأرض الأم. كان الطيران الاسرائيلي قد دمر أيضا الكوبري الرئيسي الواصل بين ضفتي القناة في منطقة القنطرة, ولم يكن أمام الجنود إلا أن يعبروا القناة إما سباحة أو عبر قوارب صغيرة إن وجدت. وبالفعل تمكن كثيرون من الوصول إلي الاسماعيلية يومي السابع والثامن من يونيو. وفي قلب أحد ميادينها فوجئ المقيمون بأعداد كبيرة من الجنود في حال يرثي لها. آثار التعب والإنهاك والجوع لا تخطئها عين, الكثير منهم كانوا يفترشون الأرض بغية لحظة راحة أو لمسة أمان. كان كل جندي يمثل رحلة وقصة مثيرة ومليئة بالغيظ والحزن. كان الحاج عبد الرحمن العدوي رحمه الله صاحب المخبز الوحيد بالقرب من الميدان يقف مذهولا مما يراه, وكان أصحاب البيوت ينظرون من الشرفات إلي مشهد الجنود في حال صدمة والدموع قد توقفت في المآقي. كان الجميع يتساءلون ما الذي جري؟ وفي لحظة كان عامل في مخبز الحاج عبد الرحمن يحمل خبزا علي بسكليتة ويسير برشاقة وسط الميدان, وفجأة جاءه أمر صاحب المخبز بأن يقف ويوزع الخبز علي الجنود المرهقين. وعندها حدثت حركة غريبة, دخلت النساء من الشرفات إلي داخل المنازل وكل منهن نادت علي ابن لها أو بنت وحملتها أكوابا من الشاي والجبن والعسل الأسود والخبز, ليعطوها إلي الجنود. مطعم عم أحمد الجميل علي الجانب الآخر من الميدان قدم ما لديه للجنود من فول وطعمية. كان الأولاد بين العاشرة والخامسة عشرة يوزعون الطعام ويشعرون بغرابة وهم يتحدثون إلي الجنود المرهقين الذين حبسوا دموعهم, ولم يكن لديهم من سؤال سوي هل أذاعت الاذاعة شيئا يخصنا. لم أفهم السؤال, لكن الوالد رحمه الله فسره لي بأن الجنود يسألون هل من توجيه لكي يتجمعوا في مكان محدد, ويقولوا ما لديهم من اسرار للجهات المختصة وينتظروا منهم التعليمات. لم يمر الوقت كثيرا, حتي ذاعت بالفعل أوامر للجنود للتجمع في اماكن محددة لكي يستعدوا مرة أخري لمعركة جديدة يستعيدون خلالها الكرامة التي اهدرت بفعل سوء التخطيط والتخبط. آنذاك, عاش ابناء مدن القناة أياما عصيبة, ولأيام طويلة كانت المدفعية الاسرائيلية التي وصلت إلي الضفة الشرقية من القناة تدك مدن الاسماعيلية والسويس وبورسعيد في توقيتات محددة في الصباح وفي الظهيرة. وفي المساء كان الناس يغلقون الأنوار وينتظرون الصباح بفارغ صبر, وكانت تعليمات الأمهات والآباء للصغار أن ناموا وبجواركم أحذية خفيفة وإن سمعتم صفارة الإنذار أخرجوا سريعا إلي قبو المنزل أو بير السلم وإن سمعتم أصوات القنابل ضعوا القطن في آذانكم. وبرغم المعاناة كان ثمة شئ يثير الفضول والقلق معا, ففي الليل والسماء صحو كانت متعة الناس ومصدر قلقهم في آن أن ينظروا إلي السماء ليرصدوا نجما يتحرك, أو بالاحري قمرا اصطناعيا يسير من جهة الغرب إلي الشرق, وآخر يقابله في لحظة بعينها آت من الشمال باتجاه الجنوب. ولاحظ الكبار آنذاك أن حركة هذه الاقمار تؤشر بشكل ما إلي طبيعة القصف المدفعي الذي سيحدث في اليوم التالي. وفي يوم حالك صدقت النبوءة, فقد قامت المدفعية الاسرائيلية بقصف الاسماعيلية لمدة أربع ساعات متواصلة. دمرت خلالها محطة الكهرباء التي أغلقت خطوطها, ومحطة المياه التي سالت في بعض الشوارع حتي ارتفاع عشرة سم, وحدثت إصابات كثيرة, وطفت بعض الجثث علي المياه. وجاء الليل, وسمعنا أصوات كلاب تنبح من بعيد. وكانت النصيحة ان يحمل كل فرد عصا غليظة ليدافع بها عن نفسه من كلب مسعور ذاق لحما بشريا. كانت شهامة المصريين وأصالتهم تفوق الوصف, فسائق سيارة الاسعاف لم يضيع وقتا كثيرا ولم يهرب بعيدا, وجاء سريعا وطلب المساعدة من أخيه الاصغر ذي الخمسة عشرة ربيعا, وحمل الاثنان معا كوريكا وأخذا يحملان بعض الجثث من هنا وهناك في سيارة نقل وذهبا سريعا إلي المقابر في وسط المدينة لحماية جثث الشهداء من أن ينالها سوء. وكان الخبر المروع لفتي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره, فقد مات الجد, وأصيب الوالد بجرح كبير في العين وأخر في القدم. كما أصيب بيت العمة بقذيفة مدفعية, وأصيبت أيضا بجروح كثيرة. لم يكن هناك مفر من دفن الجد المحبوب. ذهب أربعة رجال أبناء عمومة ومعهم الفتي الصغير إلي المقابر ليلا, الأب المصاب كان يمسك بعصا يلوح بها لطرد الكلاب. أما العمان فقد انهمكا في إعداد المقبرة وإجرءات الدفن. كان الظلام حالكا, ونباح الكلاب يتزايد, وأوامر الأعمام أن يتم الدفن سريعا. وجاء الطلب للفتي الصغير أن ينزل إلي المقبرة ليعدها لكي تستقبل جسد الجد المحبوب, نزل الفتي بضع درجات, كان الظلام حالكا لم يختلف كثيرا عن الظلام في الخارج. لكن الرهبة والخوف والرعشة كانت موجودة لايمكن تجنبها. صرخ العم هل لمست شيئا؟ رد الفتي نعم بعض عظام, فكان الرد أجمعها وضعها علي الجانب الايسر, تم المطلوب دون تفكير. كانت الخطوة التالية تسلم الجسد وتوجيه الرأس نحو القبلة حسب تعليمات العم. نزل الجسد الكبير ملتفا بقماش عادي وآثار دماء دون غسل, فالشهداء لا يغسلون. مرت لحظة ذهول في ظلام دامس وفي الخلفية نباح كلاب بدت هائجة ومسعورة. لم يكن أحد يري الآخر. وقال الأب والعم في صوت واحد لقد كنت بطلا. ما الذي حدث؟, لقد خرج الفتي سليما من المقبرة ودفن الجد.