جمعت مواجهات ميدان العباسية يوم ذكرى ثورة 23 يوليو 1952، بين عدد من المعتصمين بميدان التحرير، الذين أرادوا الوصول إلى مقَر وزارة الدفاع المصرية لمحاصرتها والضغط على المجلس العسكري من أجل التخلّي عن الحُكم لمجلس مدني يقومون باختياره، وبين جموع من المواطنين العاديين الذين منعوا الاشتباك بين قوات الشرطة العسكرية وجماعة المتظاهرين. هذه المواجهات تمثل جرس إنذار للمصريين جميعا وتكشف حجْم الاحتقان الذي يتِمّ الترويج له إعلاميا بين من يُوصفون بالثوار والمجلس العسكري، وبين المجلس العسكري والقِوى السياسية الأخرى. القلق المركّب والمشروع مشاهد المواجهات التي أتت على ممتلكات العديد من المواطنين وخلّفت العديد من المصابين، باتت مصدر قلق كبير. البعض يتخوّف من أن تكون هذه المواجهات بدايةً لمُسلسل عُنف متتالي بين الجيش وقِوى الاحتجاج المختلفة، ومن ثَمَّ إعادة إنتاج النموذج السوري بكل فظائعه. والبعض، يُراهن على العُقلاء من كل الاتِّجاهات، لاحتواء هذه البدايات والحِفاظ على نموذج الثورة المصرية السِّلمية، التي جذبت العالم لقيمة وجدوى التحرّكات الشعبية في مواجهة أعتى النُّظم الدكتاتورية والشمولية. وأيا كان الرِّهان، فقد جسَّدت مواجهات ميدان العباسية وما تلاها من اتِّهامات المجلس العسكري الصريحة لحركة 6 أبريل، صاحبة الدعوة إلى اعتصام التحرير المفتوح، بأنها المُحرِّض الأكبر ضدّ القوات المسلحة، وأن بعض عناصِرها تدرَّبوا في صربيا لقيادة الإضرابات والحشود الجماهيرية، جسَّدت القلق على مستقبل العملية السياسية والتحوُّل نحو ديمقراطية تستنِد إلى اختيارات الناس بحرية ونزاهة. كما جسَّدت أيضا قلقاً مُركبا على الثورة ومطالبها بالعدالة الاجتماعية والحرية، وعلى العلاقة بين الشعب والقوات المسلحة وعلى ما يجري في ميدان التحرير من اعتصامات وإغلاق للطرق والمنشآت العامة وعلى ما سيحدُث في الجمعة المقبلة، إن قام الإسلاميون بمظاهرة مليونية في الميدان نفسه، من أجل الشريعة والاستقرار وعلى مصير الوزراء الجُدد، الذين انضمُّوا إلى حكومة عصام شرف الجديدة، وعلى الوضع الأمني في البلاد. الهَمّ الأكبر.. بَوْصَلة ترضي الأطراف القلق في المراحل الانتقالية، مشروع، بل ومطلوب بشدّة، أما احتِواؤه، فمَرْهُون بوجود بَوْصَلة سياسية ترضي جموع القوى الثورية وجموع الشعب في آن، وهو الأمر الذي يبدو بَعِيد المنال في اللحظة الراهنة، ومِن ثَمَّ، يُسبِّب تلك المواجهات التي باتت تأخذ وتيرة متصاعدة بين جماعات وائتلافات تُسمّي نفسها بالثورية، وكثير منها مجهول الهُوية وغير معروف أعضاؤها ولا كيف تشكَّلت ومَن هُم قياداتها ومِن أيْن يأتي تمويل أنشطتها؟ ومع ذلك، ترى نفسها الصَّوت الوحيد المعبّر عن الثورة، بل وعن جموع الشعب المصري كله وتتعمّد التصعيد وفَرْض مطالب لا تنتهي وتُدين من يُخالفها في الرأي وتنتقِد بشدّة كل مَن يعمل على وضعها في حجمها الحقيقي، كحركة احتجاج من بين مئات القِوى السياسية الحزبية أو غير الحزبية. هذه الائتلافات الثورية الجديدة، ومعها بعض ائتلافات قديمة، تعتصِم بميدان التحرير، تُطالب بأن تكون هي المَرجع الوحيد للثورة ويساعدها في ذلك إعلام مكتوب وفضائي يُتابع كل خطواتها ويضفي عليها الكثير من الهيْبة والتقديس، بل ويعتبرها أحيانا صاحبة القرار نيابة عن المصريين جميعا، رغم أن هذه الائتلافات لا يزيد عددها عن 27 ائتلافا ولا يزيد عدد أعضائها عن بضعة آلاف، وذلك من بين 192 ائتلافا تطرح نفسها كقِوى ثورية ويُقدَّر عدد أعضائها بمائة ألف عُضو على الأكثر، وهو الإعلام نفسه الذي يتجاهل أدوار قوى سياسية كُبرى وأحزاب قديمة وجديدة، مثل حزب الوفد وحركة الإخوان والسلفيين والجماعة الإسلامية والمصريون الأحرار وغيرهم، وجميعهم ذوي حضور وشعبية في الشارع المصري ويتعاملون مع الثورة ومطالبها بأسلوب مختلف، يرفض دعوات العِصْيان المدني أو تخريب المرافق الحيوية أو الدخول في مواجهة مفتعلة وغير ذات جدوى مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة. الائتلافات الثورية والزيادة السَّرطانية ما يلاحظه المرء هنا، أن عددَ من يتحدّث باسم الثورة ويعمل على فرض مطالب بعينها، يزداد بطريقة سَرَطانية. فالائتلافات تنقسِم تبَعا لطموحات بعض قياداتها، بجانبها ائتلافات تظهَر على السَّطح ولا يعرف المرء عنها شيئا، سوى أنها ظهرت في الميدان وتصدر بيانات مُحمَّلة بالشروط والمطالب التي تتغيَّر من بيان إلى آخر وتتصاعد بين لحظة وأخرى. وكثيرا ما تدخل بعض الائتلافات مع بعضها البعض لتُشكِّل إئتلافا جماعيا، ولكنها لا تصمُد كثيرا. ومثل هذه الظاهرة من التَّشرذُم وغِياب كامل المعلومات حول تشكيلاتها ومصادر تمويلها وطريقة عملها، باتت تُثير الكثير من التَّساؤلات بين المصريين، الذين بدوْرهم يروْن أن حياتهم اليومية أصبحت في مهبِّ الرِّيح ومُعرَّضة للخَسارة، ومعتبرين أن حركة الاعتصام في وسط القاهرة ومُدن كبرى أخرى كالإسكندرية والسويس، وقطع الطُّرق وتسفيه مُعاناة الناس العاديين، هو أمْر ضدّ الثورة، حتى ولو جاء من ائتلافات تدَّعي الثورية. وشهِد شاهِد من أهْلها وقد جاءت التصريحات الرسمية أمام الكونغرس بأن السفارة الأمريكية في القاهرة قد دفعت مبلغ 45 مليون دولارا مباشرة لمنظمات مدنية مصرية أثناء الثورة، لتكشف عن دور أمريكي مباشر فيما جرى في مصر وما زال يجري بالفعل، وعن وجود أجندات وخطط خارجية تريد إنهاك مصر الثورة، ولتثير الشكوك حول مصدر الدعاية المنهجية السوداء ضدّ المجلس العسكري التي تمارسها ائتلافات بعيْنها، تُروِّج بأن المجلس ما زال يمالئ الرئيس السابق ويضفي عليه حماية خاصة، تمنع محاكمته، وأن المطلوب هو تحويل سلطات المجلس إلى مجلس ثوري مدني لم ينتخِبه أحد. انقسامات ميدان التحرير تُحيطها ظاهرة أكبر، وهي أن الأحزاب ذات الشعبية النِّسبية، باتت تميل إلى الابتعاد عن الائتلافات الثورية الشبابية، التي تمارس التصعيد من أجل التصعيد وحسب، وبعض هذه الأحزاب أصدرت مواقف وبيانات تحدَّثت عن رفْض ديكتاتورية الأقلية التي تمارسها جماعة بعيْنها في ميدان التحرير، وطالبت بأن يستعيد الميدان صفاته في الوحدة الوطنية والتآلف بين كل القوى السياسية، كما كان الوضع أيام الثورة ذاتها. السلفيون في الميدان ويلفت النَّظر هنا مواقف السَّلفيين والجماعة الإسلامية، الذين يرفضون ما يجري في الميدان ويُنادون بتنظيم مظاهرة حاشدة يوم الجمعة 29 يوليو الجاري، من أجل الشريعة والاستقرار، وإن حدث الأمر وشارك مئات الألوف في الميدان، فلا أحد يُمكنه منع الاحتكاكات، لاسيما وأن نظْرة السلفيين للمُعتصمين في الميدان هي نظرة سلبية. في حين تطالب أحزاب أخرى بوقْف كافة المظاهرات والاعتصامات ومنح المجلس العسكري وحكومة عصام شرف المجدَّدة، الفرصة لتطبيق ما وعدت به من مُحاسبة الفاسدين وتسريع المحاكمات لنُخبة النظام السابق، ومنح أُسَر الشهداء حقوقهم المُعلن عنها من قبل. المؤشِّرات الخطيرة ما جرى في ميدان التحرير يوم الجمعة 22 يوليو الجاري، وفي المكان ذاته قبل أسبوعين، ثم في ميدان العبّاسية بالقُرب من مقَرِّ وزارة الدفاع يوم السبت 23 يوليو، بات يكشِف عن مؤشِّرات خطيرة. أولها، وجود اتِّجاه بين المعتصمين في ميدان التحرير منذ يوم الجمعة 8 يوليو، يدعو إلى التصعيد بِلا توقُّف ضد المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحشد وراء فكرة أن الجيش سرق الثورة من أصحابها وعليه أن يسلِّمها للثوّار، وتحديدا لهم أو من يحدِّدونه هُم وليس أي أحد آخر. وثانيها، توظيف حقوق الشهداء في التشكيك في أداء الحكومة والمجلس العسكري والقضاء في آن واحد، باعتبار أن المحاكمات التي تتعلَّق بالقيادات الشرطية المتَّهمة بقتْل المتظاهرين أثناء الثورة، مُتعثِّرة وبطيئة. وفي السياق ذاته، يطرح البعض شِعار تطهير القضاء بما يعني اتِّهام القُضاة بالفساد. وثالثها، الدفع في اتجاه تعطيل وتخريب مصالح حيوية، من قبيل إغلاق قناة السويس أمام المِلاحة الدولية وتعطيل مترو الأنفاق الذي ينقل 3 ملايين راكب يوميا بين مناطق القاهرة الكُبرى وإغلاق مصالح حكومية حيوية، تحت عنوان تطبيق العِصيان المدني بالقوة. ورابعها، فرض شروط ومطالِب طويلة ومتغيِّرة بين لحظة وأخرى، تنهي مبدأ دولة القانون ويتطلَّب تنفيذها شهورا عِدّة وموارد كبيرة، وتدفع إلى إلغاء مبدأ الفصل بين السلطات وتدعو إلى المحاكمات الاستثنائية وتقْنين الانتقام لكل مَن عمِل في ظل النظام السابق في أي منصب كان، بدلا من المحاسبة القانونية الطبيعية لِمَن يثبت تورّطهم في فساد. متى يُحاكَم مبارك؟ وبين المطالب المرفوعة، يظل مطلب سرعة محاكمة الرئيس السابق ونقله إلى أحد السجون والمطالبة بإعدامه فورا وأمام الناس جميعا، مطلبا ذو وضع خاص، يُؤدّي إلى إثارة مشاعِر المواطنين في اتجاهات مختلفة ومتعارضة. فهناك مَن يميل إلى محاسبة الرجل، ولكن مع الأخذ في الاعتبار أنه رئيس سابق ورمز لمصر لحِقبة تاريخية طويلة، فضلا عن مراعاة حالته الصحية المُتدهْوِرة. وهناك مَن يميل إلى سرعة المحاكمة العَلنية وإذلال الرجل على مرأى ومسْمَع من العالم كلّه وإصدار قرار بالإعدام فورا، حتى بدون محاكمة. وفي ظل الجدل حول احتمالات موت الرئيس السابق قبل أن يُحاكم وقبْل أن يصدر بشأنه حُكم بالإدانة، يُثار التساؤل: هل يُقيم الجيش جنازة عسكرية لقائده السابق أم يكتفى بدفنه في صمت؟ وهناك من يحبِّذ جنازة عسكرية رسمية، ما دام لم يصدر حُكم قضائي بعدُ، وهناك مَن يرى أن إقامة الجنازة والمشاركة فيها، بأي صورة كانت، تُعد شبهة عظيمة بالتورّط والعمالة للنظام السابق، وهو ما لا يستقيم مع الثورة التي خلعت الرجل وأطاحت برجاله إلى السجون. الفرْز والاستقطاب هذه المؤشرات جميعا، ما بين الاستقطاب والفرْز، وما بين الشعور بالقلق والاحتماء بقدر من الأمل، تعمل على تغيير الخريطة الحزبية والسياسية بشكل مُثير، كما تجعل فِكرة إنشاء تكتُّل تاريخي يقود مصر إلى المستقبل، مسألة أكثر من ضرورية. غير أن الجهود المبْذُولة حتى اللّحظة، وأبرزها "التّحالف من أجل مصر" بقيادة حزب الوفد وجماعة الإخوان المسلمين، تبدو مُتعثّرة بعض الشيء أو قليلة الفعالية. وأبرز اهتمامات التحالف، هو رفض أولي بين الأحزاب والمستقلين، رغم أهمية المطلب، لكنه لا يمثل نهاية المسيرة. ومثل هذا التركيز على شيء جانبي، يمكن معالجته من خلال برلمان منتخب، يسهم في ترك الشارع تحت سطوة جماعات سياسية برعت في التصعيد لا لشيء، إلا لوقف العملية السياسية نفسها، لأنها تُدرك أن الانتخابات المقبلة قد تضع نهاية لنفوذها المعنوي والسياسي لصالح كلِّ مَن استعدّ للانتخابات وحشد الناس وراءه ولم يجعل كل همّه الاعتصام في ميدان التحرير والتشكيك في وطنية القوى السياسية الأخرى. المصدر: سويس انفو