شيخ الأزهر: القضاة ركيزة أساسية في إرساء العدالة وبسط الأمن والاستقرار في المجتمعات    ارتفاع أسعار الذهب في مصر بقيمة 70 جنيهًا    لتحديد القيمة الإيجارية، كشف المناطق المؤجرة للغرض السكني في 4 محافظات    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الفرنسى تطورات الأوضاع في غزة ولبنان وليبيا    مصر في المستوى الثالث، ننشر التصنيف الكامل لمنتخبات كأس العالم قبل قرعة 5 ديسمبر    النيابة الإدارية تحقق في واقعة طفلة التنمر بالدقهلية    اللي مش قد المسؤولية يمشي، مصطفى كامل يفتح النار على عضو نقابة المهن الموسيقية    النيابة تكشف عن شبكة أسرية لسارة خليفة لتصعصابة سارة خليفةنيع وترويج المخدرات    بعد إبطال 19 دائرة.. عماد جاد ل الرئيس السيسي: نطالبكم بإصلاح جذري للحياة السياسية    وفاة المخرج خالد شبانة رئيس قطاع قنوات النيل المتخصصة وشقيق الإعلامي الرياضي محمد شبانة    الإسماعيلي ينفي شائعات طلب فتح القيد الاستثنائي مع الفيفا    أردوغان: صادراتنا السنوية بلغت في أكتوبر 270.2 مليار دولار    جامعة مصر للمعلوماتية تكشف عن برامج مبتكرة بالذكاء الاصطناعي في الأمن السيبراني والتعليم وعلوم البيانات    تأييد أمر منع هدير عبدالرازق من التصرف في أموالها    19 نوفمبر 2025.. استقرار البورصة في المنطقة الخضراء بارتفاع هامشي    شوبير يكشف حقيقة تولي كولر تدريب منتخب مصر    أحمد المسلماني: برنامج الشركة المتحدة دولة التلاوة تعزيز للقوة الناعمة المصرية    محمد حفظي: العالمية تبدأ من الجمهور المحلي.. والمهرجانات وسيلة وليست هدفا    بعد أزمته الصحية.. حسام حبيب لتامر حسني: ربنا يطمن كل اللي بيحبوك عليك    في يومه العالمى.. تجمع علمى تحت شعار "كل نفس مهم" لمرض الانسداد الرئوي المزمن    خالد عبدالغفار: دول منظمة D-8 تعتمد «إعلان القاهرة» لتعزيز التعاون الصحي المشترك    الصحة: مصر خالية من الخفافيش المتسببة في فيروس ماربورج    الطقس غدا.. ارتفاع درجات الحرارة وظاهرة خطيرة صباحاً والعظمى بالقاهرة 29    روسيا: أوكرانيا تستخدم صواريخ أتاكمز الأمريكية طويلة المدى مجددا    الأهلي يحصل على موافقة أمنية لحضور 30 ألف مشجع في مواجهة شبيبة القبائل    نور عبد الواحد السيد تتلقى دعوة معايشة مع نادي فاماليكاو البرتغالي    شقيق إبستين: كان لدى جيفري معلومات قذرة عن ترامب    أول رد فعل من مصطفى محمد على تصريحات حسام حسن    إزالة تعديات وإسترداد أراضي أملاك دولة بمساحة 5 قيراط و12 سهما فى الأقصر    مدير"تعليم الجيزة" يحيل قيادات وموجهين للتحقيق ل "مخالفات" في رصد الدرجات والغياب    ضبط المتهمين بقتل صاحب ملجأ والتخلص منه في مصرف بالشرقية    وصفات طبيعية لعلاج آلام البطن للأطفال، حلول آمنة وفعّالة من البيت    ارتفاع عدد مصابي انقلاب سيارة ميكروباص فى قنا إلى 18 شخصا بينهم أطفال    أسطورة ليفربول يكشف مفاجأة عن عقد محمد صلاح مع الريدز    المصرية لدعم اللاجئين: وجود ما يزيد على مليون لاجئ وطالب لجوء مسجّلين في مصر حتى منتصف عام 2025    جامعة قناة السويس تدعم طالباتها المشاركات في أولمبياد الفتاة الجامعية    رئيس الأركان يعود إلى أرض الوطن عقب مشاركته بمعرض دبى الدولى للطيران 2025    وزير الري يلتقي عددا من المسؤولين الفرنسيين وممثلي الشركات على هامش مؤتمر "طموح إفريقيا"    تعرف على أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    الداخلية تضبط أكثر من 17 طن دقيق مخالف وتتصدى لتلاعب المخابز    الأكبر منذ 50 عاما..مصرع شخص فى حريق التهم أكثر من 170 مبنى باليابان "فيديو"    السياحة العالمية تستعد لانتعاشة تاريخية: 2.1 تريليون دولار إيرادات متوقعة في 2025    نجاح كبير لمعرض رمسيس وذهب الفراعنة فى طوكيو وتزايد مطالب المد    إقبال واسع على قافلة جامعة قنا الطبية بالوحدة الصحية بسفاجا    منال عوض تترأس الاجتماع ال23 لمجلس إدارة صندوق حماية البيئة    صيانة عاجلة لقضبان السكة الحديد بشبرا الخيمة بعد تداول فيديوهات تُظهر تلفًا    جيمس يشارك لأول مرة هذا الموسم ويقود ليكرز للفوز أمام جاز    إطلاق أول برنامج دولي معتمد لتأهيل مسؤولي التسويق العقاري في مصر    ندوات تدريبية لتصحيح المفاهيم وحل المشكلات السلوكية للطلاب بمدارس سيناء    هنا الزاهد توجه رسالة دعم لصديقها الفنان تامر حسني    أبناء القبائل: دعم كامل لقواتنا المسلحة    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    شهر جمادي الثاني وسر تسميته بهذا الاسم.. تعرف عليه    اليوم، حفل جوائز الكاف 2025 ومفاجأة عن ضيوف الشرف    ماذا قالت إلهام شاهين لصناع فيلم «بنات الباشا» بعد عرضه بمهرجان القاهرة السينمائي؟    العدد يصل إلى 39.. تعرف على المتأهلين إلى كأس العالم 2026 وموعد القرعة    داعية: حديث "اغتنم خمسًا قبل خمس" رسالة ربانية لإدارة العمر والوقت(فيديو)    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18نوفمبر 2025 فى المنيا....اعرف صلاتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدولة الدينية أم الدولة الإسلامية؟
نشر في المصريون يوم 13 - 07 - 2011

أثير في الفترة الأخيرة – ومازال – جدل كبير حول مسألة التحول السياسي في مصر، وهل ستتحول مصر إلى دولة دينية أم إلى دولة مدنية؟ والحقيقة أن الجمهرة العظمى من الناس يقعون ضحايا فوضى استخدام المصطلحات على الساحة الفكرية والثقافية في العالم العربي والإسلامي، ويجب علينا أن نقف وقفة متأنية لنزيل الضبابية عن هذه المصطلحات في هذه الفترة الحاسمة؛ لأن الفهم الدقيق والصحيح لكل ما نتلقفه من مصطلحات هو أول خطوة نحو بناء المجتمعات بناءً قويًّا بعيدًا عن الوقوع فريسة الخداع والتمويه وتلوين الكلمات والتلاعب بالألفاظ.
أما عن المصطلح الأول، وهو الدولة الدينية، فهو مصطلح يستخدمه الآن العلمانيون فزَّاعة لتنفير الناس من الدين، بل من الإسلام وحكم الإسلام، فكلما تعالت أصوات الإسلاميين لتحكيم الشريعة الإسلامية وإعطائها مكانها اللائق في المجتمع المسلم، أو كلما كثرت الأحزاب الإسلامية التي تتبنى الفكرة الإسلامية وتدافع عنها، لوَّح العلمانيون بالدولة الدينية وخطرها على المجتمع، وحاولوا إسقاطها على الإسلام؛ ليبتعد الناس عن كل ما هو إسلامي.
الدولة الدينية مصطلح أوربي صرف:
والحقيقة التي يجب أن نعيها ولا تغيب عنا أبدًا هي أن نعرف أن مصطلح الدولة الدينية بعيد كل البعد عن الإسلام، فالإسلام لا يعرف الدولة الدينية كمصطلح مشهور ومعروف، ولا علاقة له بها من قريب أو بعيد، فمصطلح الدولة الدينية مصطلح أوربي صرف، عُرف في العصور الوسطى باسم الثيوقراطية (Theocracy)، أي الحكومة الدينية أو الإلهية؛ والمقصود بها الحكومة التي تخضع لسيطرة كهنوتية، وكلمة (Theos) في اليونانية معناها: الإله، وقد جاءت السابقة (Theo) هنا لتشير إلى ما يوصف بأنه إلهي، فيقولون مثلاً: (Theology) أي: الدراسة اللاهوتية، وهكذا...، وفى هذا النوع من الحكم تسيطر طبقة رجال الدين على هذا النوع من الحكومات، فيصبغون تصرفاتهم بصبغة إلهية ويجعلونها فوق مستوى المناقشة أو النقد لأنها إرادة عليا تسمو على عقول البشر، وفيها يزعم رجال الدين أنهم نُوَّاب عن الله وممثلون للسلطة الإلهية، وهذا يعنى أن الحكومة الثيوقراطية (الدينية) تئول في النهاية إلى حكم ديكتاتوري مستبد لا يُلْقِى بالاً لإرادة الأمة، بل يمكن القول إن الحكومة الثيوقراطية (الدينية) أكثر استبدادًا من الحكومة الديكتاتورية التي لا يزعم أصحابها أنهم ممثلون للسلطة الإلهية كما هو الحال مع الحكومة الثيوقراطية.
إن نظام الحكم في الإسلام لا يتفق مع هذا النظام الثيوقراطى الذي عرفته أوربا في العصور الوسطى، فالإسلام لا يعرف الكهنوت، ولم يعرف عبر تاريخه الزعماء الروحيين المؤلهين، وأصحاب الهالات الدينية المقدسة الذين يحتكرون حق الغفران والحرمان، ويستأثرون بمفاتيح الجنة، ويمثلون إرادة الرب، ومن هنا فالحاكم المسلم لا يستطيع أن يدعى بأن قراراته إلهية لا تقبل النقد، وبأنه مُنِحَ وحده حق احتكار الدين والتحدث باسمه، وليس على الرعية إلا أن تسمع وتطيع، فهو في ظل النظام السياسي الإسلامي لا يزيد عن أن يكون منفذًا للشريعة، ومن حق الأمة التي تختاره أن تعزله، كما أن لأي فرد في الإسلام حق الاجتهاد متى بلغ القدر الكافي من العلم الذي يؤهله ليكون مجتهدًا، ومن حق الآخرين مخالفته في الرأي إذا كانت لهم أسانيدهم وأدلتهم.
فالنظام الثيوقراطى هذا ينسحب على الكنيسة في العصور الوسطى، وعلى حكومة الباباوات في روما، ولا يصح – بأي حالٍ من الأحوال - إسقاط هذا النظام على نظام الحكم في الإسلام، فلا وجود في الإسلام للكهنوت ولا لطبقة ممتازة تُدْعَى (طبقة رجال الدين)، ولهذا يستحيل أن يوجد في الإسلام مؤسسة تشبه الكنيسة المسيحية التي تختص بأسرار الدين وطقوسه ... ومجمل القول أن تعبير الثيوقراطية – كما يفهمها الغرب- لا معنى له على الإطلاق في البيئة الإسلامية، ولا يمكن أن يتكرر في العالم الإسلامي؛ لأن مبادئ الإسلام وضوابط النظام السياسي الإسلامي لا تسمح بذلك أبدًا.
ونخلص مما سبق إلى أن الدولة الدينية:
1- هي الدولة التي يُشَرِّع فيها رجال الدين.
2- رجال الدين يقصد بهم رجال الدين المسيحي الذين يزعمون أنهم لهم القداسة على البشر، وأنهم يتكلمون بكلام الله، فما أحلوه كان حلالاً، وما حرموه كان حرامًا!!
وهؤلاء الذين ينطبق عليهم قول الله سبحانه وتعالى: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [التوبة: 31]، فهم تعدوا على حق الله في التشريع وجعلوا من أنفسهم آلهة!!
3- وذلك كان في العصور الوسطى في أوربا، عندما كانت تحكمهم الكنيسة وكانت حجر عثرة أمام البحث العلمي.
إذاً فالدولة الدينية تتميز بما يلي:
1- السلطة التشريعية فيها لرجال الدين، ولا يوجد في الإسلام هذا المسمى! بل إن أعباء هذا الدين على أكتاف معتنقيه جميعًا، قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "كلكم على ثغر من ثغور الإسلام فلا يؤتين الإسلام من قبلك"، وليس في الإسلام ما يسمى بالكهنوت.
2- السلطة التنفيذية هي سلطة رجال الدين أيضًا، ولذلك كانوا يفصلون في قضايا الناس ويأكلون أموالهم... ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) [التوبة: 34).
3- السلطة القضائية عندهم هم أيضًا رجال الدين!!! وكم عانى المجتمع الأوربي في العصور الوسطى من قسوة رجال الدين ومن ظلمهم حتى دفعهم ذلك للتخلص من سلطة الكنيسة، والتخلص من الدين، وإعلان ما يسمى بالدولة العلمانية أو الدولة المدنية، قاصدين الدولة اللادينية.
4- وينطبق مفهوم الدولة الدينية أيضًا على الدولة الشيعية في إيران، لأن السلطة التشريعية فيها للمرجعيات الشيعية، وعندهم ما يسمى بولاية الفقيه وهى أيضًا مصدر من مصادر التحكم والتشريع.
قل: الدولة الإسلامية ولا تقل: الدولة الدينية:
فهل الأوصاف السابقة تنطبق على الدولة في الإسلام؟ إن المتأمل المنصف يرى أن التحليل السابق لا يمكن أن ينطبق على الدولة الإسلامية، وعلى مدار التاريخ الإسلامي لم نعرف خليفة من الخلفاء ادعى لنفسه العصمة أو احتكر تفسير النصوص الدينية، أو زعم أنه فوق المحاسبة والنقد، بل على العكس نجد أن الخليفة دائمًا ما كان يؤكد على بشريته، وأنه ليس معصومًا، وأنه بحاجة إلى الأمة لتقوِّم تصرفاته وتعينه على الحق، فهو خاضع لرقابة المسلمين، ومن حق كل فرد أن يسأله ويحاسبه، فهذا هو أبو بكر الصديق، أول قائد للدولة الإسلامية، يقف في أول خطبة له ويقول: "أما بعد، فقد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإذا وجدتموني على خير فأعينوني، وإذا وجدتموني على باطل فقوموني"، وكان هذا شعار كل من جاء بعده من الخلفاء.
فالأولى بنا أن نقول: الدولة الإسلامية، فهو مصطلح لا يختلف عليه أحد، وليست له ظلال سيئة، ولا نقول: الدولة الدينية؛ لأنه مصطلح ذو ظلال قاتمة وسمعة سيئة، فإذا أُطلق تبادر إلى الذهن ما حل بأوربا من الظلم والعبث من جراء الدولة الدينية.
ولكن يجب أن نشير هنا إلى أن مصطلح الدولة الدينية ليس مرفوضًا لذاته، وإنما رفضناه ونحيناه جانبًا لما يرتبط به من ظلم وعبث، ولما له من ظلال سيئة في أذهان المثقفين والمفكرين، أما إذا مُحيت هذه الظلال وزالت تلك السمعة فإن المصطلح حينئذٍ يكون مصطلحًا مقبولاً ولا غبار عليه، ولا بأس حينئذٍ أن نصف الدولة في الإسلام بأنها دولة دينية بمعنى أنها دولة تجعل الدين منطلقًا لها في كل شئونها، فهو الدين الذي ارتضاه الله لهذه الأمة، يقول تعالى: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ)) (آل عمران: من الآية 19)، ويقول جل شأنه: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)) (المائدة: من الآية 3)، وليست الدولة الدينية في الإسلام مقتصرة على فترة حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما يدعي البعض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قد مات فإنه ترك فينا الوحي من قرآن وسنة؛ ليظل دستورًا للأمة الإسلامية وهاديًا لها في كل شئونها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أما الدولة الإسلامية فهي الدولة التي تتحاكم إلى الله سبحانه وتعالى في شريعته، فالتشريع عندها من الله سبحانه وتعالى من خلال كتاب الله وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم، فالتشريع في الدولة الإسلامية لله، وليس لرجال الدين ولا لأصحاب السلطة الزمنية من الرؤساء أو الخلفاء، والسلطة التنفيذية لأمير الأمة الذي يُختار عن طريق الشورى ومهمته أن يطبق شرع الله في الرعية وأن يعبدهم لله، ولمجلس الشورى حق المراقبة له، فإن خرج عن حد الله أوقفوه وإلا عزلوه، وجميع أفراد الأمة سواء أمام الشريعة الإسلامية، لا فرق بين حاكم ومحكوم، فلكلٍّ مكانته، ولكلٍّ دوره لإقامة الدولة والمحافظة عليها.
الدولة المدنية والدولة الإسلامية:
أما مصطلح الدولة المدنية فيُطلق ويُراد به عدة أمور:
- أولاً: تُطلق على ما هو ضد الدولة العسكرية، فالدولة المدنية هي الدولة التي يحكمها الشعب لا الجيش، والإسلام لا يعرف الدولة العسكرية.
- ثانيًا: تُطلق على الدولة التي تفصل بين الدين والسياسة، والدولة المدنية بهذا المفهوم دولة علمانية لا دينية، والإسلام لا يعرف الفصل بين الدين والسياسة.
- ثالثًا: تُطلق على الدولة التي تقوم على أساس مبدأ تساوى حقوق وواجبات المواطن الذي يستوطن هذه الدولة بصرف النظر عن دينه، وفقًا لمواد الدستور المستمدة من مبادئ الشريعة الإسلامية، وعلى مبدأ فصل السلطات، والدولة المدنية بهذا المفهوم لا تفصل الدين عن السياسة بالضرورة، وإنما هي بمثابة اتفاقيات يعقدها ويلتزم بها شعب هذه الدولة...أي وفقًا لمبدأ لكم دينكم ولى دين.
فالدولة المدنية هي دولة التعايش مع الآخر، وكما يقرر علماء الاجتماع أن الإنسان مدني بطبعه، فالمقصود أنه يتعايش مع الآخرين، ولا يمكن أن يحيا في عزلة عن الآخرين، أو يستغني عن الآخرين، وطالما أنه سيتعامل مع الآخرين ويعاملهم، فلابد من وضع الضوابط والقواعد التي تحكم علاقته بهؤلاء الآخرين حتى لا يحدث صدام أو تنازع.
وهذا المفهوم الأخير هو الأقرب إلى التطبيق العملي للدولة الإسلامية في عصرها الأول، بمعنى أنها دولة إسلامية مدنية، ولا تعارض بين إسلامية الدولة ومدنيتها، فهي دولة إسلامية في مرجعيتها، ومدنية لأنها تقبل التعايش مع الآخر في ظل مجموعة من الضوابط التي لا تخرج في مجملها عن الشرع، وقد ظهر ذلك بوضوح شديد منذ اللحظة الأولى لقيام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، حيث كان من أبرز الدلائل على استوائها على سوقها واكتمال عناصرها بعد الهجرة تلكم الصحيفة، أو ما نستطيع أن نسميه بالمصطلح الحديث "الدستور" الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ليحكم العلاقة بين المسلمين وغيرهم من سكان المدينة المنورة، حيث كان مجتمع المدينة آنذاك يضم إلى جانب المسلمين قبائل اليهود المعروفة تاريخيًّا من بني قَيْنُقَاع، وبني قُرَيْظة، وبني النَّضِير، فضلاً عن بقايا الوثنيين، وقد أُطْلِق على عناصر المجتمع المدني عند وضع هذه الصحيفة "أهل هذه الصحيفة"، وتُعَدُّ هذه الصحيفة بحق دستور الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة، ومن هنا يطلق كثير من الباحثين المحدثين على هذه الصحيفة مصطلح "دستور المدينة"The Constitution of Madinah أو "ميثاق المدينة" The Charter of Madinah.
وقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الصحيفة وضع غير المسلمين من عرب المدينة وما يجب عليهم تجاه المسلمين وتجاه أعداء المسلمين من مشركي قريش، وكفل لليهود حرية الدين والعبادة، وأمَّنهم على أنفسهم وأموالهم، إلى غير ذلك من التنظيمات وتحديد العلاقات التي تضمن استقرار المجتمع الإسلامي الجديد.
فكانت هذه الصحيفة فتحًا جديدًا في الحياة السياسية والمدنية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت تمثل – في رأينا – ورغم البدايات الأولى للدولة الإسلامية- قمة النضج السياسي لهذه الدولة الجديدة ولهذا القائد العظيم.
فصحيفة المدينة أو دستور المدينة من أبرز الأدلة على مدنية الدولة الإسلامية، طالما أن بنود هذه الصحيفة لا تخرج في مضمونها عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو بمعنى آخر: لا تخرج عن المرجعية الإسلامية المعتبرة.
ويجب أن نلاحظ هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمتنع عن وضع مثل هذه الصحيفة أو الدستور اكتفاءً بالقرآن الكريم أو السنة النبوية، بل كان عليه صلى الله عليه وسلم أن يعالج أوضاعًا ومواقف جديدة في الدولة الإسلامية في ظل الأطر العامة التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، حيث قدم هذان المصدران المبادئ والتوجيهات العامة الهادية للمسلمين في هذا السبيل، وتركا التفاصيل تحدِّد ملامحَها الدقيقة ظروفُ كلِّ عصرٍ ومصرٍ دون أن تنحرف عن روح الإسلام ومبادئه الأساسية.
فالدولة الإسلامية دولة مدنية لأنها - بكل بساطة - تقبل التعايش مع الآخرين وإن اختلفوا معها في العقيدة، ((لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَن الذينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُم وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنًَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (الممتحنة: 8)، وليس معنى الدولة المدنية أي العلمانية على طريقة الغرب كما يحلو للبعض أن يزعم، وهذا التعايش يكون - كما ذكرنا - في ظل الأطر والقواعد والضوابط التي حددها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، كما أنها (أي الدولة الإسلامية) تستمد مبادئها الرئيسة من مصادر التشريع الإسلامي المتفق عليها فقهيًّا بما ينظم العلاقة بين أفراد الشعب على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والدينية.
فنحن نريد دولة إسلامية تتحاكم إلى شرع الله تعالى، ويتساوى فيها الجميع أمام هذا الشرع، ولا نريد دولة دينية كهنوتية على النسق الغربي العلماني.
ولعل ما ذكرناه يكفي للمساعدة على تحديد المصطلحات بصورة أقرب إلى الدقة والواقع، لأن فوضى استخدام المصطلحات يمثل خطرًا كبيرًا على الساحتين الفكرية والسياسية.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.