بالصور.. رئيس جامعة القاهرة يؤم المصلين خلال افتتاح مسجد المدينة الجامعية    توجيهات رئاسية.. تساؤل برلماني بشأن حظر ربط المصروفات باستلام الكتب    أول يومَين بالمدارس أنشطة فقط.. خطاب رسمي ل"التعليم" لاستقبال الأطفال    تحصين 194 ألف رأس ماشية ضد الحمى القلاعية بالدقهلية    قناة السويس تشهد عبور السفينة السياحية العملاقة AROYA وعلى متنها 2300 سائح    محافظ المنيا يفتتح أعمال الصيانة الشاملة لمدرسة تجريبية    عبد العاطي يُطلع نظيره الإسباني على نتائج قمة الدوحة    قوات الاحتلال تقتحم مدينة نابلس شمال الضفة الغربية    هل ينهي الاجتياح البري لمدينة غزة مسار مفاوضات وقف الحرب؟    الملك تشارلز الثالث يستقبل ترامب في قلعة وندسور |صور    "أحصل على حقي".. أول تعليق من الغندور بعد استدعائه للتحقيق    "يضغطون على المجلس".. الكشف عن تفاصيل محاولات إعادة حسام البدري لتدريب الأهلي    عضو مرصد الأزهر تحذر من ظاهرة الفاملي بلوجرز (فيديو)    قرار قضائي جديد بشأن طفل المرور في اتهامه بالاعتداء على طالب أمام مدرسة    تشييع جثمان شاب غرق أثناء الاستحمام في مياه البحر بكفر الشيخ    80%ملكية أمريكية.. ملامح الاتفاق الجديد بين الولايات المتحدة والصين بشأن "تيك توك"    السياحة والآثار تكشف حقيقة اختفاء وتحطم 5 قطع أثرية بالمتحف اليوناني الروماني    بعد نشر صورة مع جدها الفنان محمد رشدي.. من هي البلوجر فرح رشدي؟    مهرجان الجونة السينمائي يكشف عن برنامج مسابقة الأفلام القصيرة بالدورة الثامنة    حكم ما يسمى بزواج النفحة وهل يصح بشروطه المحددة؟.. الإفتاء توضح    خالد الجندى: الإنسان غير الملتزم بعبادات الله ليس له ولاء    "التهاب حاد".. طبيب يكشف خطورة مرض إمام عاشور ومدة غيابه    زيارة مفاجئة تكشف قصوراً بمركز طب الأسرة في أسوان.. والمحافظ يوجه بالتحقيق الفوري    البنك المركزي: القطاع الخاص يستحوذ على 43.3% من قروض البنوك بنهاية النصف الأول من 2025    عاجل- رئيس الوزراء: مصر ثابتة على مواقفها السياسية والإصلاح الاقتصادي مستمر رغم التحديات الإقليمية    بالفيديو.. ميسرة بكور: زيارة ترامب إلى لندن محاولة بريطانية لكسب الاستثمارات وتخفيف الضغوط السياسية    منال عوض: خطة شاملة للمحافظات للتعامل مع مخاطر الأمطار    أسباب استبعاد أورس فيشر من قائمة المرشحين لتدريب الأهلي    بسبب الحرب على غزة.. إسبانيا تلمح لمقاطعة كأس العالم 2026    مفتى الجمهورية: ما يجرى فى غزة جريمة حرب ووصمة عار على جبين العالم    صفحة وزارة الأوقاف تحيى ذكرى ميلاد رائد التلاوة الشيخ محمود خليل الحصرى    فيلم فيها إيه يعنى بطولة ماجد الكدوانى يشهد الظهور الأخير للفنان سليمان عيد    المستشار الألماني يطالب مواطنيه بالصبر على الإصلاحات وتحملها    معاش للمغتربين.. التأمينات تدعو المصريين فى الخارج للاشتراك    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 17سبتمبر2025 في المنيا    هل يجوز لى التصدق من مال زوجى دون علمه؟.. الأزهر للفتوى يجيب    نقيب المحامين يترأس جلسة حلف اليمين القانونية للأعضاء الجدد    تأجيل محاكمة 7 متهمين قتلوا شخصا وشرعوا فى قتل 4 آخرين بالخانكة لديسمبر المقبل    الكشف على 1604 مواطنين فى القافلة الطبية المجانية بمركز بلقاس    وزير الري: الاعتماد على نهر النيل لتوفير الاحتياجات المائية بنسبة 98%    شاب يلقى مصرعه حرقًا بعد مشادة مع صديقه في الشرقية    خلال تصوير برنامجها.. ندى بسيوني توثق لحظة رفع علم فلسطين في هولندا    "البديل الذهبي" فلاهوفيتش يسرق الأضواء وينقذ يوفنتوس    بإطلالة جريئة.. هيفاء وهبي تخطف الأنظار في أحدث ظهور.. شاهد    «عودة دي يونج».. قائمة برشلونة لمباراة نيوكاسل في دوري أبطال أوروبا    24 سبتمبر.. محاكمة متهم في التشاجر مع جاره وإحداث عاهة مستديمة بالأميرية    أيمن الشريعي: علاقة عبد الناصر محمد مع إنبي لم تنقطع منذ توليه مدير الكرة بالزمالك    «عبداللطيف» يبحث مع وفد مجلس الشيوخ الفرنسي تعزيز التعاون المشترك في مجالي التعليم العام والفني    "جمعية الخبراء" تقدم 6 مقترحات للحزمة الثانية من التسهيلات الضريبية    جامعة القاهرة تحتفي بالراحلين والمتقاعدين والمتميزين في «يوم الوفاء»    مصر تطلق قافلة "زاد العزة" ال39 محملة ب1700 طن مساعدات غذائية وإغاثية إلى غزة    «ليه لازم يبقى جزء من اللانش بوكس؟».. تعرفي على فوائد البروكلي للأطفال    صحة المرأة والطفل: الفحص قبل الزواج خطوة لبناء أسرة صحية وسليمة (فيديو)    حركة القطارات | 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأربعاء 17 سبتمبر    منال الصيفي تحيي الذكرى الثانية لوفاة زوجها أشرف مصيلحي بكلمات مؤثرة (صور)    بتر يد شاب صدمه قطار في أسوان    بهدف ذاتي.. توتنام يفتتح مشواره في دوري الأبطال بالفوز على فياريال    توقعات الأبراج حظك اليوم الأربعاء 17 سبتمبر 2025.. الأسد: كلمة منك قد تغير كل شيء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الظنيّ والقطعيّ والتنصل من الشريعة الإسلامية
نشر في المصريون يوم 02 - 07 - 2011

يدق الحديث عن النصوص "القطعية" و "الظنية" آذاننا منذ فترة ليست بالقصيرة ، ويدندن العديد من رموز التيار العلماني حول ضرورة اقتصار أحكام الشريعة علي النصوص "القطعية" الدلالة فقط ، ونبذ كل الأحكام المستمدة من نصوص "ظنية" الدلالة علي الإطلاق ، وفي نفس الوقت يحوم رموز التيار العقلاني بالأزهر الشريف حول فكرة أقل خطراً إلي حد ما ، وهو اعتماد الأحكام المعتمدة علي نصوص ظنية الدلالة لكن ليس بالضرورة بما يتوافق مع المذاهب الأربعة المعتمدة أو أحدها ، بل ربما كان بفهم جديد تماماً يتناسب مع النكسة الحضارية والثقافية التي يعيشها هؤلاء المستغربين ، ويرضي عقدة التفوق الغربي التي تشكل محور هويتهم العلمية والثقافية.
ماهي النصوص "القطعية" الدلالة وماهي النصوص "الظنية" الدلالة ؟ ولماذا يطالب العلمانيون بإسقاط الأحكام المستمدة من الأخيرة من جانب ، بينما يطالب "المعتزلة الجدد" بنبذ أصول المذاهب الأربعة في تفسيرها وإعادة تفسيرها بحسب أهوائهم من جانب آخر ؟ لماذا لم تنص "وثيقة الأزهر" علي مذهبٍ رسمي للدولة – وهو شئ بديهي عندما تخرج تلك الوثيقة من الأزهر – حتي تصبح مصر كسائر البلاد "الإسلامية" ؟ هل تقتضي وثيقة الأزهر – ضمنياً – إعادة القضاء الشرعي إلي مصر ؟
أزعم أنني في هذا المقال أسعي لتقديم إجابات مبسطة عن هذه الأسئلة ، بما يحقق وعياً مبدئياً لدي المنتسبين إلي التيارات الإسلامية المختلفة بما يحاك من مؤامرات علي حاكمية الشريعة في مصر ، سواءاً من التيارات العلمانية الصريحة ، أو المستترة بستار الاعتزال الحداثي والعقلانية المستغربة.
نصوص الوحيين (القرآن والسنة) لها خاصيتين في غاية الأهمية ، الخاصية الأولي هي الثبوت ؛ أي ثبوتها عن النبي صلوات الله وسلامه عليه ، والخاصية الثانية هي الدلالة ؛ أي دلالتها علي حكم شرعي ما ، فأما بالنسبة للثبوت فإن كل نصوص القرآن الكريم قطعية الثبوت ، أي أن الإسناد الذي يصل القرآن الكريم بالنبي صلي الله عليه وسلم لا يقبل التشكيك ولا النقد ، وأما بالنسبة للسنة النبوية المطهرة فإن إجماع أهل السنة والجماعة علي أن أحاديث الصحيحين قطعية الثبوت وتفيد العلم اليقينيّ سواءاً في ذلك المتواتر منها أو ما رواه الآحاد ، وخلال تاريخ الإسلام لم يرد أبداً عن جماهير علماء أهل السنة رد قطعية ثبوت أحاديث الآحاد – لاسيما في الأحكام - وإنما ورد ذلك فقط عن المبتدعين من الفرق الضالة كالجهمية والمعطلة والمرجئة ومن علي شاكلتهم ، وشعب مصر – في الجملة - ينتمي لأهل السنة والجماعة في الاعتقاد والأصول ، أما باقي السنة مما ورد في الصحاح والسنن والمسانيد ، فتخضع قطعية ثبوته إلي قواعد المحدثين ، فما صح إسناده وانتفت فيه علل الضعف ، كان قطعيّ الثبوت ، والعكس صحيح.
أما درجة الدلالة من حيث القطع والظن ، فهي محل النزاع في هذا المقام. يقول العلمانيون أن ماكان ظنيّ الدلالة لايمكن تعليق الأحكام به ، لحدوث الخلاف علي دلالته ، وبالتالي تفرق الأمة حول تلك الأحكام ، ومن ثم فيدعون إلي إلغاء كل الأحكام الشرعية المستمدة من النصوص ظنية الدلالة ، وهذا ماورد في نص وثيقة الأزهر المشئومة التي تخالف أصول أهل السنة والجماعة من غير وجه.
أما أصحاب المذاهب العقلانية ممن أحب أن أسميهم "المعتزلة الجدد" فيقولون أنه لا يمكن إلغاء النصوص ظنية الدلالة من جملة التشريع ، لاسيما أن الكثير من آيات القرآن من هذا الصنف ، ولكن استنباط الأحكام الشرعية من تلك النصوص هو الذي يجب أن يتغير بتغير الزمان والمكان ، فما كان محرماً في عصر النبي صلي الله عليه وسلم بنص ظنيّ الدلالة ، يجوز أن يصبح مباحاً الآن ، والعكس صحيح ، وعلي هذا فهؤلاء المبتدعين يسلون مسلكاً فكرياً يقود إلي التنصل من المذاهب الأربعة الفقهية المعتمدة عند أهل السنة والجماعة ، ويقود أيضاً إلي تعليق كل مسائل العقيدة المستمدة من النصوص الظنية الدلالة بتغير الزمان والمكان.
أما العلمانيون الذين يدعون إلي إقصاء كل النصوص الظنية الدلالة من الشريعة الإسلامية ، تحت إطار (التمسك بمبادئ الشريعة الكلية) كما تجلي ذلك في وثيقة الأزهر الإسلامية الظاهر العلمانية المضمون ، فيُرد عليهم بأن النصوص الظنية الدلالة كانت موجودة منذ عهد النبي صلي الله عليه وسلم ، وفهمها وتعامل معها الصحابة بأفهام مختلفة أقرها النبي صلي الله عليه وسلم من حيث أنها (غلبة الظن) لأصحابها علي كلامه صلي الله عليه وسلم ، ومن حيث عدالة الصحابة واجتهادهم ، والدليل علي ذلك مارواه البخاريّ ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) وقصة الحديث مشهورة معروفة ، فانقسم الصحابة رضوان عليهم فريقين : الصحابة من الفريق الأول أخذوا بظاهر أمر النبي صلي الله عليه وسلم وأخروا العصر حتي دخلوا بني قريظة فصلوه بعد العشاء ، والفريق الثاني أوّل كلام النبي صلي الله عليه وسلم أنه "حثٌ" علي سرعة المسير إلي بني قريظة ، وصلوا العصر في وقته ، ولم ينكر رسول الله صلي الله عليه وسلم علي أيٍّ من الفريقين فِعله ، فظهر بهذا أن كلا الفريقين متفقٌ في الأصل وهو : الأخذ بنص النبي صلي الله عليه وسلم علي الرغم من أنه ظني الدلالة ، وأن كلا الفريقين أيضاً مختلف في الفرع وهو : استنباط الحكم الشرعي من كلام النبي صلي الله عليه وسلم ، ولأن الفريقين قد استفرغا جهدهما للفهم والوصول إلي مراد النبي صلي الله ليه وسلم ، فقد أقرّ كليهما وأجاز فعل الصحابة من الفريقين جميعاً ؛ وبهذا تسقط دعوي العلمانيين مباشرةً إذ أنها لو كانت صحيحة ، لأسقط الصحابة من كلا الفريقين كلام النبي صلي الله عليه وسلم بحجة أنه "ظنيّ الدلالة" ولا يفيد العلم اليقيني ، وبالتالي لأنكر الرسول صلي الله عليه وسلم – علي الأقل – علي الفريق الذي أخذ بظاهر كلامه ؛ مع معرفة الوعيد علي تأخير الصلوات عن أوقاتها.
أما الحداثيون الأزاهرة الذين اعتنقوا مذهب الشيخ محمد عبده وأستاذه الأفغاني ، الذي يعتبر وجهاً جديداً معاصراً للإعتزال ، فيذهبون إلي مذهبٍ وسط بين العلمانيين والأصوليين ، فهم يدعون أن هناك ما أسموه "بالمبادئ الكلية" للشريعة ، وهم لم يجهدوا أنفسهم بتوضحيها وبالرغم من ذلك فهم دائماً ما يحيلون الكلام عليها ، وهي – فيما أري – أنها تمتد بصلة ما إلي "مقاصد التشريع" الخمسة كما يبدو من اصطلاحها ، وهم ينصون الآن علي أن هذه المبادئ الكلية فقط هي صلب الشريعة الذي لا يسوغ مخالفته ، ويسعون لقصر مرجعية الشريعة عليها فقط ، كما ظهر ذلك من وثيقتهم المنسوبة للأزهر الشريف ، وتلك المبادئ – في تنظيرهم لتلك الوثيقة – مستمدة من النصوص "القطعية الدلالة" فقط ، وبهذا يظهر وجه اشتراكهم مع العلمانيين في السعي لقصر حاكمية الشريعة علي النصوص القطعية الدلالة فقط ، أما النصوص الظنية الدلالة ، فيري هؤلاء العقلانيون الحداثيون – في وثيقتهم - أن الجهة الوحيدة المخولة بتفسير تلك النصوص الظنية ، واستنباط الأحكام منها هو الأزهرالشريف ، بدون أي تقييد مباشر أو ضمنيّ بمذهب الدولة الرسمي ، الذي لم تسمه هذه الوثيقة – للغرابة الشديدة – علي الرغم من تأكد ضرورة ذلك ، لاسيما بالنسبة للجهابذة الأصوليين الذين درسوا المذاهب الأربعة أصولاً وفرواعاً ويعرفون قيمتها أكثر من أي أحد في مصر !
إذا نظرنا لأي بلد إسلامي سنجد أن له مذهباً رسمياً ترجع إليه المؤسسة الدينية الرسمية في استنباط الأحكام ، وإجراء القياس ، والترجيح بين الأقوال ، وما إلي ذلك من أعمل الإفتاء والقضاء ، ولنضر الأمثلة علي ذلك بما شئنا ، فها هي ماليزيا تنص قوانينها علي أنها ترجع إلي مذهب الشافعيّ ، وباكستان تنص علي أنها ترجع إلي المذهب الحنفيّ ، والمغرب والعديد من دول إفريقية المسلمة تنص علي أنها ترجع للمذهب المالكيّ.
في واقع الأمر أنّ كل مذهب من المذاهب الأربعة هو عبارة عن مدرسة فكرية ومنهجية ، لها العديد من القواعد الأصولية المحررة التي يمكن بواسطتها التعامل مع النصوص الظنية الدلالة واستنباط الأحكام منها ، والترجيح بين الأقوال المختلفة فيها ، فالمذهب في حقيقة الأمر ليس إلا : طريقة للتعامل مع نصوص القرآن والسنة. والمذاهب الأربعة طال قبول المسلمين من أهل السنة والجماعة لها ، وتحررت قواعدها وعرفت ، وانتشرت كتبها ومسائلها وخلافاتها وحفظت ودونت ، فبالتالي فإن الإسلتزام بأحد هذه المذاهب – من غير تعصب له – ييسر علي المسلمين كل أمور حياتهم ومعاشهم ، والقواعد الأصولية في كل مذهب تمكن "المجتهدين" من الذين جمعوا أدوات الاجتهاد ؛ تمكنهم من استنباط الأحكام للمسائل الجديدة العارضة التي لم تكن موجودة من قبل ، فالمذهبية الفقهية في حقيقة الأمر هي الوسيلة الوحيدة لمواجهة تحديات العصر بدون التفريط في أصول الدين التي كان عليها المسلمين طوال القرون السابقة.
المشكلة الكبري أن الالتزام بهذه القواعد الأصولية للمذاهب الأربعة بحمل في طياته حتمية الاصطدام بالغرب ومناهجه الفكرية القائمة علي النسق الفلسفي الحداثي ومبادئ الحضارة الغربية كالليبرالية والمساواة المطلقة وغيرها ، لهذا فإن المتأثرين بتلك الحضارة والمتشبعين بهذا النسق الفلسفي الحداثي يحاولون بشتي الطرق – من لدن محمد عبد إلي الآن – أن يتجنبوا التقيد بهذه القواعد الأصولية الثابتة الراسخة التي وضعها الأئمة الكبار الأعلام كأبي حنيفة والشافعي ، ويحاول هؤلاء المستغربين دائماً أن ينسبوا تحللهم من تلك الأصول إلي مصطلحاتٍ شيقة ، تخلب الأباب وتأسر الأسماع ، مثل "التجديد" و "إعادة الاجتهاد" و"إعادة النظر في الأدلة" وما إلي ذلك من المصطلحات الموهمة المموهة ، والتي هي في حقيقة الأمر تهدف للتحلل من كل أصول المذاهب الأربعة مجتمعة ، وتهدف إلي هدم الإجماع بوجه أولي ، كأحد مصادر التشريع عند أهل السنة والجماعة.
ختاماً أود أن أوضح أن مقاصد التشريع التي يسميها "المعتزلة الجدد" بالمبادئ الكلية تتفق عليها كل شعوب الأرض وكل ثقافات وحضارات المعمورة ، وليست ثم فائدة علي الإطلاق بالنص علي أن مرجعية الشريعة تقتصر علي تلك المبادئ الكلية ، لاسيما وأن مقصد حفظ الدين قد تم تفريغه من مضمونه تماماً ، بإسقاط النصوص الظنية الدلالة أو بجعل الاجتهاد فيها مخالفاً – في الأغلب – لتراث الأمة الفقهي متمثلاً في المذاهب الأربعة ، والسؤال الذي يجب أن يجيب عليه المعتزلة الجدد الآن هو : ماذا نفعل بتراث الأمة الفقهي والأصول يعلي مدار أربعة عشرة قرناً من الزمان ؟ هل نستمر في تدريسه لأبنائنا أن نجمعه كله ونلقيه في البحر كما فعل التتار في بغداد ؟ أتراهم كانوا يرون النصوص الظنية الدلالة لا تصلح للإستدلال والاحتجاج أيضاً...؟!
الهوامش
 إدراج المراجع التي تنص علي حجية النصوص الظنية الدلالة في الاستدلال وتعبد هذه الأمة بغلبة الظن يحتاج لصفحات وصفحات في ذاته ، إذن أن ذلك قد نصت عليه كل كتب الأصول والفروع ، وعلي سبيل المثال يمكن للقارئ الرجوع إلي أصول السرخسي ، الإحكام للآمدي ، التلخيص لإمام الحرمين ، البحر المحيط للزركشي ، التحبير شرح التحرير للمرداوي ، العدة للقاضي أبي يعلي ، الفصول في الأصول للإمام الجصاص ليري كيف ينص هؤلاء السادة من علماء الأمة الأجلاء علي ذلك ، ويمكن للقارئ أيضاً أن يرجع إلي كتب الفقه علي أي مذهب من مذاهب أهل السنة شاء ليري كيف نتعبد إلي الله بغلبة الظن في مسائل الصلاة والصيام والحج والطهارة والمعاملات والبيع ولشراء والميراث وسائر فروع الشريعة.
 قضية المذهبية وضرورتها لعامة المسلمين لاسيما في القضاء – ويفترض أن مرجعية الشريعة تعني تطبيق القضاء الإسلامي ولاشك – يمكن الرجوع فيها – علي سبيل المثال لا الحصر - إلي رسالة الحافظ بن رجب الحنبلي المسماة "الرد علي من اتبع غير المذاهب الأربعة" وكذلك إلي مقدمة المجموع للإمام النووي ، ورسالة الشيخ زاهد الكوثري البالغة القيمة المسماة "اللامذهبية قنطرة اللادينية".
 يمكن للقارئ المهتم بمعرفة دور الشيخ محمد عبده الحقيقي في إدخال الفكر العلماني والمنهج الفلسفي الغربي في مصر أن يراجع كتاب "الإسلام والحضارة الغربية" لفضيلة الأستاذ محمد محمد حسين الذي ترجم فيه للعديد من المفكرين الغربيين الذين أشادوا بدور محمد عبده في التوطئة والتمهيد للفكر العلماني في مصر ، ويمكن للقارئ كذلك أن لكتاب "صحوة الرجل المريض" لموفق بني المرجة لبيان حقيقة شخصية الأفغاني ودوره في إضعاف الخلافة العثمانية وإدخال الفكر الغربي الحداثي إلي مصر ، وكذلك المقال الرائع لفضيلة الأستاذ الدكتور يحيي هاشم حسن فرغل – رحمه الله - عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر سابقاً الذي هو بعنوان "الردة الثقافية" الذي جمع فيه الأقوال التي تدين محمد عبده بتهمة "علمنة" الفكر الأزهري حين كان من المسئولين عن إعادة دوره في بناء الهوية الإسلامية وترميم الثقافة الإسلامية المهدمة.
باحث زائر – جامعة ماليزيا التكنولوجية
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.