على صفحات ( المصريون ) ذكرت من قبل في مقال بعنوان (داخل الصندوق وخارجه) أن الإبداع العلمي والسياسي والإداري جاء غالباً عبر التاريخ من النظر البعيد خارج جدران الصناديق ، أعني تجاوز النظرَ الضيق الأفق والأطرَ المرسومة مسبقاً لغايات مختلفة تجاوزها الواقع أو لم تعد صالحة ، وضربت أمثلة لذلك ، واليوم أعرض نوعاً من هذا التفكير في صورة " مقترح " لعله يسعف الدولة في مجال محاربة الفساد المالي والإداري الذي يعطل مسيرة التنمية ، وهو ما أسميه : الرقابة القبلية . لقد أنشأت الدولة المصرية أجهزة متعددة لمحاربة الفساد وضبط النظام المالي والإداري للدولة مثل الرقابة الإدارية والجهاز المركزي للمحاسبات والنيابة الإدارية وغيرها ، لكن هذه الأجهزة رقابتها في الغالب رقابة ( بعدية ) أي أنها تراقب غالباً ما وقع ، وهي رقابة مرهقة ومكلفة مادياً وإدارياً ، والعائد منها قليل ، هناك جهد كبير في تتبع الفساد وتحويله إلى المحكم وإشغال النيابة والمحاكم وأجهزة الأمن .. وربما السجون في حال الإدانة .. كل هذه تكلفة مرهقة للدولة ، إضافة إلى الضرر المعنوي والمادي من المحاكمات والسجون ، والأخطر من ذلك صعوبة استرجاع الأموال المنهوبة كما هو حاصل الآن فيما تم تهريبه خارج البلاد ... إن هذا الأمر يحتاج إلى علاج من نوع جديد ، يحتاج إلى قرار جريء شجاع إذا كنا نريد أن نمنع الفساد من منابعه ، إن منطق العقل يقول : إذا استطعت أن تمنع اشتعال النار في مكانٍ ما فلا تنتظر حتى تشتعل ثم تجهد نفسك في إطفائها ، فهذا ينافي أبسط قواعد العقل والمنطق ! نقترح على السيد رئيس الجمهورية الذي يملك اليوم كل سلطات الدولة في يديه في ظل غياب المجالس النيابية أن يصدر تشريعات بتحويل الرقابة الإدارية أو جزء كبير منها من رقابة بعدية إلى رقابة قبلية ، ولدينا في هذا تصورات كثيرة عن طريقة إنشاء هذه الآلية وعملها ومهمتها مما لا يتسع المقام لتفصيله ، لكنّا نشير إلى أمور أساسية تاركين التفصيل إلى حين وجود الرغبة الحقيقية في تحقيق ذلك . سيتم اختيار مجموعات من الشباب الوطني المصري المحب لوطنه - بغض النظر عن الانتماءات السياسية - المسلّح بأدوات العصر من الحوسبة والخبرات القانونية والإدارية .. وسيتولى جهاز الرقابة الإدارية وغيره من الأجهزة ذات العلاقة تدريباً عاجلاً لهم في دورات مكثفة ، وسيصدر الرئيس قراره بتشكيل (إدارة الرقابة العامة) تكون تابعة له شخصياً مثل إدارة المخابرات العامة ، ويعين لها رئيساً يكون اتصاله بالرئيس مباشراً ويومياً ، بل يفضل أن تكون إدارتها الرئيسية ضمن أحد القصور الرئاسية لتكون على مقربة واتصال مباشر بالرئيس ، على أن يتم تقليص الرقابة الإدارية تدريجياً لصالح الرقابة العامة أو القبلية المقترحة . سيتم تكليف كل وزارة ومديرية تابعة لها وكل جامعة وكل إدارة كبيرة من إدارات الدولة بتجهيز غرفة مستقلة باسم غرفة ( المراقب العام ) تستقبل هؤلاء المراقبين وكل مراقب سيكون ممثلاً لرئيس الجمهورية في موقعه ، بمعنى أنه سيتمكن من الاطلاع على كل الملفات والمعاملات المالية والإدراية الخاصة بالوحدة ، وسيجمع المعلومات عن الموظفين وسلوكهم الإداري ومدى انضباط العمل وموافقته للقوانين واللوائح المنظمة ... والأهم من ذلك أنه سيراقب النشاط المالي للوحدة وينبه الرئيس المباشر لها على المخالفات قبل وقوعها ، وهذا يقتضي أن يتم عرض النشاط المالي للوحدة على المراقب العام قبل تنفيذه وأخذ موافقته عليه دون تعسف وفي توقيتات محددة حتى لا يعيق عمل الوحدة . ووفق ذلك ستتم مراقبة المبيعات والمشتريات والحوافز والمكافآت والبدلات والمناقصات والمزايدات .. وهذه تمثل ميادين التلاعب والفساد الأساسية في المفاصل الإدارية للدولة ، وفي حال وجود استشكال فسوف يتصل المراقب بالجهة الأعلى منه مباشرة لأخذ الرأي والمشورة القانونية .. ومن المهم هنا أن يكون هؤلاء المراقبون مستقلين عن الوحدات الإدارية التي يراقبونها ، وأن تكون لهم سلطات ومهام محددة لا يتجاوزونها قائمة على المراقبة لا على التدخل المباشر في سير العمل ، وأن لا تكون للجهة الحكومية سلطة عليهم تمنعهم من ممارسة عملهم ، على أن يكون ذلك كله في إطار قانوني ملزم للجميع . ستتم مراقبة هذه الآلية لمدة سنة ومعرفة ما يمكن أن توفره للدولة من أموال وجهود في الرقابة البعدية كما ذكرنا ، فإذا أثبتت نجاحاً في محاربة الفساد فمن الممكن نشرها بصورة أوسع على وحدات الجهاز الإداري الصغرى فتتوسع - على سبيل المثال - من إدارة الجامعة إلى الكليات التابعة لها ، على أن تشكل الرقابة العامة في الجامعة كياناً واحداً له رئيس وممثلون في الكليات ، وهكذا في كل مرافق الدولة . إن بضعة آلاف من هؤلاء المراقبين يمكن أن يوفروا على الدولة مليارات عديدة بصورة مباشرة وغير مباشرة ، ولا يمكن أن تقارن تكلفة هذا الجهاز بالعائد المتوقع منه ، وقد سمعت أحد رؤساء الوزارة في دولة سبقتنا اقتصادياً بعد أن مرّت بظروف مشابهة لظروفنا .. قال : لقد وفرنا من محاربة الفساد سبعين مليار دولار في بضع سنين ! لدينا مجموعة متنوعة من هذه الأفكار التي يمكن أن توفر للدولة موارد مالية كبيرة دون عبء على الطبقات الفقيرة ، وفي المدى المنظور يمكن أن تغنيَ الدولة عن القروض وبخاصة ذلك السرطان الاقتصادي المسمى ( أذون الخزانة ) هذا إذا وجدنا أذناً واعية أو حتى مصغية !!