هيئة الثروة المعدنية ، لما كانت قائمة في مصر بإسم المساحة الجيولوجية، كانت تعد من المشاريع القومية الناهضة والواعدة في المنطقة العربية والأفريقية، للدور الرائد الذي كانت تؤديه فيه. دور نوصي الدولة – ِبحَث ودعم تلك المؤسسة - نهضته مرة أخرى، خصيصا في هذا الزمن الذي يشهد الحاجة الماسة لها، في ظل الصراع المتنام لدول حوض النيل على مورده المائي النفيس، دون مراعاة البيئة الجيولوجية والطبيعية له، فالتاريخ والمصالح والحاجات المتصلة به في المنطقة. فيما يلي سنعرض من خلال ذكر الوظائف الحيوية الواجب إعتمادها لهيئة الثروة المعدنية، الأسباب الواجبة على الدولة لنهضة هذا الكيان مرة أخرى على أرض مصر، والدور الإقليمي والدولي الواجب أن توكلها به. بصفة عامة يمكن تحديد المهام الأساسية لهيئة الثروة المعدنية (المساحة الجيولوجية سابقا) في التالي : 1- المساحة والتخريط الجيولوجي التفصيلي للجمهورية The detailed geological mapping and survey of Egypt 2- إستكشاف مصادر الثروات المعدنية الإقتصادية للدولة Exploration of economic ore deposits فيما يخص النقطة الأولى نقول، أن المساحة والتخريط الجيولوجي التفصيلي للجمهورية ولدول حوض النيل، تعتبر - حسب رأينا - في ظل التطورات السياسية القائمة حاليا في الساحة الوطنية والدولية، من أهم الأولويات في حاضرنا الواجب على تلك الهيئة أداءها في المنطقة. فوجود خريطة جيولوجية مفصلة ومستحدثة للوطن ولدول حوض النيل لهو الشرط التمهيدي لتخطيط مستقبل عمراني آمن لها، وللمشاريع القومية الحيوية التي تُفعّل بجوارها، كإستكشاف أراضيها عن ثرواتها الطبيعية أو إستخراجها. لذلك نقول، كون المساحة والتخريط الجيولوجي المرجع الحيوي والأساسي للدولة في تأمين وتحديد وتوجيه مصالحها العمرانية والإقتصادية، وجب عدها من أولى المهام التي على هيئة الثروة المعدنية إتمامها في الوقت الحالي. كذلك وجب على الهيئة – عند إستحداث الخريطة الجيولوجية المفصلة للوطن - دراسة وتحديد كافة مصادر المياه الكائنة في المنطقة، التي منها مياه الأمطار الموسمية والمياه الجوفية، الواجب إحتسابها كمصدر تُمد المدن بها أو إحتياطي يتم تأمينه لمستقبل المد العمراني الحاضر أو المتوقع لها (securing water resources and reserves). فإلى جانب مياه الأنهار، تعتبر مياه الأمطار الموسمية - إن حصرت في تجمعات إقتصادية - إحدى أهم المصادر الطبيعية للمياه الواجب الإستفادة منها. الجدوى الإقتصادية من ذلك مشهود له منذ القدم في التاريخ العربي والأفريقي. فالترصد لسيول الأمطار ومناطق تجمعاتها بكميات إقتصادية، فجمعها في سدود وأحواض لتخزينها، أمر كان يعمل به في المنطقة على مدار تاريخها الحضريأ الذي خلف شواهد عظيمة لذلك، نذكر منها سد مأرب في اليمن، الذي شيد منذ تقريباً ثلاث ألف سنة إلا عقدين، والقناطر الخيرية في مصر التي شيدت تقريبا كافتها في حقبة الخديوي إسماعيل. كذلك ما نقل عن الفراعنة، من تشييدهم لسدود وأحواض تخزين على ضفاف النيل لصد الفياضانات عن مزارعها والإستفادة منها للري، ليؤكد أهمية ذلك المصدر منذ القدم. ولا يختلف الأمر بالنسبة للمياه الجوفية. فهي تعد أيضا إحدى أهم المصادر الطبيعية للمياه. لكونها متوفرة في المنطقة، وجب أيضا رصدها وجردها وتأمين مصادرها (Predicting Underground Water Reservoirs) للإنتفاع منها. لقد ضربت الجمهورية الليبية مثالاً فاضلا في ذلك بمشروعها القومي "النهر الصناعي العظيم". فبهذا المشروع أمنت به الجمهورية لأجيالها القادمة ذلك المصدر القيم من المياه لمئات السنين. عدد السنين السابق ذكرها ليست بخطأ كتابي، بل رقم صحيح، مقدر بدقة من الخبراء الجيولوجيين الأجانب، ويعد رقم شائع لمثل هذا المصدر القيم من المياه. مما وجب ذكره في شأن دراسة مصادر المياه الجوفية هو، أنه على الرغم من أنها باتت في حاضرنا تعتبر روتينية خارج البلاد - لها على سبيل المثال تاريخ طويل في معهد فايزمان للعلوم في رحبوت- إسرائيل، لحرص إسرائيل على ضمان مصادر مياه المنطقة لها لقرون ممتدة - إلا أنها للأسف مازالت مجهولة أو شبه مجهولة في دولنا إلى اليوم. فلا يوجد في المنطقة العربية والإفريقية - حسب ما نعلم – القدرات او الكفاءات الواجبة في هذا المجال من هيدرولوجيين رفيعي المستوى ممن يستطيعون معالجة هذا الموضوع بشكل موضوعي واف ومتكامل، كذلك يمكن الجزم أن المقومات والمعدات التقنية الهندسية اللازمة لإتمامها غير متوفرة في المنطقة. فلم أشهد –على سبيل المثال - في هيئة المساحة الجيولوجية - لما كانت قائمة – توفر المؤهلين الكفؤين من هيدرولوجيين ذوي خبرة في معرفة ورصد التحركات والدورات الطبيعية للمياه الجوفية (movements and cycles of underground water) في خزاناتها (aquifers)، فممن يستطيعون تنبأ حجم ومصادر خزانات المياه الجوفية في المنطقة بكفاءة (underground water reservoirs)، كذلك لم أشهد توفر المعامل اللازمة لهذه الدراسات، كالمعامل المختصة لدراسة نظائر الهيدروجين والأوكسجين لجزىء الماء، التي يتم بها تحديد عمر المياه وكذلك نوعها، أهي مياه حديثة (juvenile water)أم مياه حفريات(fossil water)، بمعنى مياه تجمعت في خزانات جيولوجية قديمة العهد، وهو أمر مهم جدا كشفه لمثل تلك الدراسات. لعل ما أفادتنا به الأخبار المحلية الأخيرة والخطيرة عن تعرض مدن وقرى محافظات البحر الأحمر وسيناء وأسوان لكوارث مؤسفة بسبب سيول مياه الأمطار الموسمية التي إجتاحتها، وكذلك ما أفادتنا به الأخبار الإقليمية من تكالب دول الجوار على هدم طبيعة حوض النيل بالسدود التي تبنيها حوله، بزعم حاجتها لذلك لتأمن لنفسها نصيب من مياهه، ليؤكد ما سبق أن ذكرناه عن الحاجة الماسة للمنطقة - وليس مصر وحدها - لهيئة جيولوجية ترعى كافة شؤونها القائمة على أرضها، من أول دراسة مصادر المياه القائمة فيها إلى أخر تحديد السبل الإقتصادية والطبيعية الواجبة على دول حوض النيل مراعاتها نحوها، لمراعاة مصالحها وحاجاتها المتصلة بها في المنطقة بالصورة السليمة. تلكم أهم الوظائف الواجب إستحداثها في الساحة الجيولوجية الساعة، لا مشاريع قومية وهمية كمشروع د. الباز، أو هدامة لطبيعة حوض النيل، كسدود دول حوض النيل، التي يتوقع منها تأثيرات سلبية خطيرة على مصرنا وحضارتها إن لم يتم تداركها بسرعة. لذلك نؤكد أن على الدولة نهضة موضوع هيئة المساحة الجيولوجية - كمشروع قومي ومصلحة وطنية - مرة أخرى على أرض الوطن، لتؤدي في المنطقة الدور الواجب فيه، السابق ذكره، بالصورة الرائدة، الذي أثبتت فيما مضى أهليتها لذلك. ختاما، نوصي دول حوض النيل في شأن مصادرها الطبيعية، التي منها مياه النيل، أن ترعى فيه المصلحة العامة فوق الخاصة، حتى تستطيع أن تحقق بها أكبر نفع ممكن للمنطقة، فذلكم أولى لها من التخطيط "العشوائي" القائم حالياً فيها، والذي تحثه – حسب رأينا - مصارف أجنبية مشكوك نواياها فيها، تعمل يدا بيد مع معاهد أبحاث جيولوجية غير قديرة – حسب تقديرنا، كونها لا تفيد الدول التي تعمل فيها إلا بإستشارات هدامة لبيئتها، الأمر الذي سيترتب عليه - بلا أدنى شك - أثارا سلبية لها ولمحيطها - بمعنى دول الجوار - التي منها مصر. ما يؤكد ذلك، عدم إتمام تلك المؤسسات دراسات ترعى حاجات دول الجوار من مياه حوض النيل المحيطة بها، أو دراسة المصادر المائية البديلة لمياه النيل الكائنة في المنطقة التي تعمل بها، كالمياه الجوفية أو مياه الأمطار الموسمية، التي يمكن الإستعاضة عن مياه النيل، حفاظا على طبيعته الفريدة، التي يخربونها بدون مبرر – حسب رأينا. حق القول على مثل تلك المؤسسات المصرفية والجيولوجية التي تدعم هدم طبيعة حوض النيل، أنها تسعى في ذلك لهدم ثوابت المنطقة وزعزعة إستقرارها. ما يؤكد ذلك، عدم مراجعتها لدول حوض النيل المحيطة بها في خصوص المشاريع التي تريد أن تفعلها على حوض النيل المتصل بها، أو طلب الرأي والمشورة فيها درءا لأذى محتمل قد ينجم عنها لها. لذلك لا يمكن الحكم على تلك المؤسسات أنها تعين المنطقة، بل يحق القول فيها أنه مناهضة لشؤونه، وهي تعلم ذلك. تخيلوا النزاعات التي كانت ستحدث بين ألمانيا وفرنسا وباسل (سويسرا) وهولندا على سبيل المثال، لو بنت إحداها سدا على نهر الراين (Rhein) - الذي يمر بها جميعا - لتغير من مساره ؟ فكيف يتم بناء سدودا في منطقتنا من مؤسسات أجنبية دخيلة علينا دون الرجوع إلينا ؟ ما مخططات تلك المؤسسات بمواردنا ؟ هل ستبيع لنا في المستقبل حصتنا الطبيعية أم ستساومنا عليها لمصالح أخرى ؟ مرة أخيرة ،لا بد من تفعيل هيئة أبحاث جيولوجية لدول حوض النيل تهدف في عمل إقليمي مشترك إلى دراسة متأنية لمصادر مياه المنطقة وسبل الحفاظ عليها، مع مراعاة المد العمراني القائم لديها في ذلك، فتقديم النصح الواجب نحوه، ليتم بذلك تحقيق أكبر منفعة واردة بها لها. العالم الدكتور/ أحمد الجريسي* ، السيد الطرابيلي** / مدير عام جيولين * http://www.bgi.uni-bayreuth.de/organization/bgistaff/staffinfo.php?id=128 http://en.wikipedia.org/wiki/El_Goresy ** www.geolin.eu [email protected]