كلما قرأنا ، أنا و العالم الدكتور أحمد الجريسي ، خبرا عن المشاريع القومية التي يراد تفعيلها على أرض الوطن، أو حتى خارج حدوده، ذهلنا في أحيان كثيرة من الكم من التكاليف الخرافية التي يعتمد لها، مع أنها - إعتمادا على خبراتنا - لا تستحق إلا جزءا ميسورا منه ، وفي أحيان أخرى من الكم من الجهل الذي يحيط بأرضيته العلمية، التي تفتقد للرؤية الصائبة، فتجعلها - حسب رأينا - غير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع بالصورة المعلنة عنها ، فغير إقتصادية. في مقالات سابقة لنا نالت بعضا منها نقدنا ، كمشروع توشكى ، الذي إفتقرتخطيطه إلى تبني الخبرات الدولية العصرية الرفيعة له ، التى كانت قائمة في الساحة أنذاك، والواجب رعايتها في أي مشروع قومي يراد نهضته. الأمر الذي جعله ينال النقد الواسع من علماء دوليين حكموا عليه إما بالفاشل أو بمشروع يفتقر للمصداقية ، كما نقلت عن الدكتور الجريسي /1/ وزميل الدكتور، الدكتور رشدي سعيد. كنا نتمنى أن يقف الإعلام عن نشر مثل تلك المشاريع بعد الثورة ، التي نعتبرها - بإذن الله - إنطلاقة جديدة للوطن، إلا أن الإعلام كشف لنا مرة أخرى أن ذلك وهم. فما أعلنه الدكتور الباز في حق المشروع الذي يريد نهضته على أرض الوطن ، المسمى ب "ممر التنمية" ، لا يصدق وصفه إلا بالخيالي، ومرة أخرى من علماء دوليين ، منهم العالم الدكتور الجريسي. فالمشروع - بحسب رأيه - غير مبني على أساس علمي واضح أو واجب في أمره، فغير مسنود بحقائق أو بيانات علمية كافية لدعم مصداقيته. الشىء الوحيد الواضح لنا فيه حتى الأن ، هو عظم الضجة الإعلامية المثارة له ، التي يراد بها تفخيم أمره ، لأسباب نجهلها، ربما تكون سياسية ، تهدف لبعث روح التفائل فينا، في مشوارنا الشائك الذي خلفه لنا النظام السابق ، لا غير. المشروع - لمن لا يعرفه - كما تم نقله من صحيفة "العرب اليوم" ، يغرض إلى " فتح أفاقا جديدة للنمو العمراني والزراعي والصناعي بالقرب من التجمعات السكنية وإنشاء 200 مدينة جديدة ونصف مليون قرية على جانبي ممر التنمية الذي يضم 15 تجمعا عرضيا غرب النيل والدلتا التي تبدأ من العلمين في أقصى شمال مصر على البحر المتوسط وحتى توشكى قي أقصى جنوب مصر ، وتربط بينها وبين الوادي القديم شبكة طرق برية وسكك حديدية ( للمزيد راجع /2/ ). يقول الدكتور الجريسي أن ما نشره الدكتور الباز يفتقر إلى عرض الحقائق العلمية التي تدعم تصوره، لذلك قبول أمره أو فكر توفيقه غير وارد ، ولذلك يدعو الدكتور المستثمرين التأني في موضوع المشروع، والحرص من التعجل في شأنه ، بل يدعوهم - بالصورة الحالية المقدمة له – إلى تجاهله حتي يتم الإفادة بالدراسات والأبحاث العلمية الدقيقة التي سيبنى عليه. كذلك يرى الدكتور الجريسي - إستنادا إلى خبراته - أن فرص نجاح المشروع بالصورة التي تم تقديمها بها غير واردة للأسباب التالية : - المشروع العمراني الذي يراد إستحداثه من أقصى شمال مصر إلى جنوبه، مارا بالصحراء الغربية ، يحتاج لكميات ضخمة من المياه لإحياؤه ، وهو لأمر غير وارد له الأن أو في المستقبل، لأن مصر لا تملك إلا ما تملك من حصة مياه النيل، التي لن تفي لحجم المشروع المعلن عنه من د. الباز، الذي يقدرالدكتور الجريسي حاجته بأضعاف الحصة المقدرة لنا. - حصة مصر من مياه النيل، التي تم تحديدها وتثبيتها بين كل من مصر وأثيوبيا والسودان وأخيرا الدولة التي ستستحدث جنوبه، "جنوب السودان"، يتوقع لها أن تقل في المستقبل بشكل خطير بسبب ما أشاده الأثيوبيون من سدود على حدود حوض النيل الأزرق، لصرف مياهها عن مجراها الطبيعي إلى جبالها القحطاء، بزعم تنميتها زراعيا. يتنبأ الدكتور الجريسي من عملية صرف مياه النيل التي إستحدثتها أثيوبيا على أهم مصب للنيل ، النيل الأزرق ، الذي ثبت علميا انه المصدر الأساسي للفيضانات والطمي ، أنها ستؤدي بلا شك إلى خفض نسبة ماء النيل التي كانت تورد لدول الحوض من طرفها بصورة خطيرة، لا يمكن التنبؤ أو التحسب لها ولعواقبها الأن بالصورة السليمة. لذلك يتوقع الدكتور، أن ما يتم على أحواض النيل الأن من عمليات صرف مياها ، في ظل نمو التعداد السكاني لدول الحوض، سيؤدي حتما إلى تصعيد أزمات إقليمية في المنطقة، سيكون نقص المياه والحاجه المتزايدة له من إحدى أهم أسبابه. - يقول الدكتور الجريسي ، على ضوء الوقائع المستحدثة والتي ستستجد في المنطقة، لن تحيا النهضة العمرانية في مصر ، بسبب السياسات الدولية المحيطة بها، إلا في إطار محدود ، سيتم فرضه عليها بسياسة الأمر الواقع من دول المنبع التي ستسيطر على موارده حينئذ. لذلك يتساءل الدكتور الجريسي ، كيف يراد لمشروع التنمية نهضة نصف مليون قرية وحصتها من المياه لا حام أو مدافع لها، أو أقله هيئة مشرفة على رقابتها، المفروض إقامتها لضمان نجاحه ؟ - المياه الجوفية للصحراء الغربية، التي تغذي واحات سيوة والداخلة والخرجة والفرافرة، ومنذ عام 1954 الوادي الجديد، والتي يراد إعتمادها لمشروع ممر التنمية، مياه حفرية (Fossile Water) ، تكمن في خزانات (Aquifers) أرضية محدودة الحجم والعدد. هذه الخزانات الأرضية تنسب للحقبة الجيولوجية المعروفة بإسم البلايستوسين (Pleistocene)، التي يقدر عمرها ب 700.000 سنة. عمر هذه المياه ونوعها يتم كشفه معمليا من خلال تحديد نوع نظائر الأوكسجين الموجودة في جزي الماء. وهو ما تم دراسته في الصحراء الغربية عام 1968م من قبل معهد الفيزياء الطبيعية لجامعة هايدلبرج، ألمانيا (Institute of environmental physics of the University of Heidelberg ). لقد أثبتت تحاليل المعهد أن خزانات المياه الجوفية الكامنة في المنطقة لا تصل إليها مياه الأمطار ، فلا يتم تزويد مخزونها بالماء ، فهو بذلك محصور بمكنونه. لذلك توقع المعهد في ذلك الزمن، إستنادا على متطلباته ، أن إستهلاكه سيتم في غضون 80 سنة، فما بالكم بالمدة الإستهلاكية التي سيقدر لها اليوم إذا تم إعادة النظر فيه عامل النمو السكاني الذي إزداد في العقود التي مضت بصورة غير متوقعة ، والذي يتوقع له الإزدياد في المستقبل. - لا يكشف المشروع كيف سيتم رعاية الحاجة الضخمة له من الماء في ظل الحاجة الموازية والمتزايدة له لمدن وقرى مصر القائمة الأن. لذلك نؤكد أنه على الدكتور الباز أن يفيدنا في مشروعه ما تم فيه من دراسات في شأن حصة المياه التي سيحتاجه ، وكيف تم تقدير حاجات مصر فيه القائمة لها في الحاضر والمستقبل. - لم يوضح الدكتور الباز في مشروعه كيف سينسجم وسيتوافق مشروعه مع الزحف العمراني الطبيعي لمدن وقرى مصر. لا يمكن أن نتصور أن مشروع دكتور الباز راعى ذلك ، لأنه لا يصور لنا الزحف العمراني المتوقع للمنطقة. فرضا ان ذلك معناه ترك ظاهرة العشوائيات تتفشى ومشاكلها تتأزم، فمعنى ذلك أن مشروعه يهدد بتجاهل حاجة العشوائيات أو أنه معرض للفشل بسبب إهمال حاجاتها التي بلا شك ستتضارب مع حاجات مشروعه في المستقبل القريب أو البعيد. لقد ترك لنا الدكتور الباز في الأخر ذكره المجال الواسع للتساؤل عن مستقبل العمران والتمدين لمصر المحروسة، التي نعرفها ومشاكلها ، ونرجو لها كل خير. وكذلك فتح المجال الواسع للتساؤل عن مشروع توشكى ؟ فعن مستقبله وحاجاته ؟ ندعو الدكتور الباز إفادتنا برأيه عن هذا المشروع القومي ، الذي كنا نطمعه منه أثناء التخطيط له. يرى الدكتور الجريسي أن مقترح الدكتور الباز لا بد أن يتم دراسة موضوعه – لضخامة حجمه - من لجنة دولية ، يشرفها متخصصون في دراسة مصادر المياه الطبيعية لمصر، فمن هيدرولوجيين رفيعي المستوى. ستكون وظيفة اللجنة دراسة وتقييم المقترح المقدم من الدكتور الباز ، للحكم على مدى قابلية تنفيذه على أرض الواقع ، كذلك - في ظل الجهود التي ستبذل في تقييمه ، والدراسات والأبحاث الواسعة التي ستقام له - دراسة البدائل والفرص الواقعية المتاحة للوطن في شأن إستغلال مصادر مياهها ، مع مراعاة المعاهدات الدولية التي تحكم موضوعه مع دول الجوار في ذلك. الأخر ذكره ، مفروض تقديمه عن المقترح المقدم من دكتور الباز والمجهود الضخم الذي سيحتاج لمراجعته – حسب إيماننا. لمثل تلك اللجنة نوصي دائما وابدا لرآستها العالم الجيولوجي البارز الدكتور رشدي سعيد ، خبير جيولوجيا النيل (للمزيد راجع /3/ ) ، وعن نفسي أقترح وأرشح الدكتور الجريسي كأحد المستشارين والمراقبين العلميين والتنفيذيين للجنة الدولية ، لخبرته الواسعة في الجيولوجيا والفلزات والكيمياء الكونية ، ولسابق خبراته الدولية الواسعة ايضا في تقييم المشاريع القومية. الدكتور رشدي سعيد والدكتور أحمد الجريسي ، من أفاضل علماء مصر ، ذوا سمعة دولية منفردة في أعمالهما الجيولوجية، لا منازع أو منافس لهما في ذلك ، على أو خارج أرض مصر. وأخيرا ، في كل ما سبق ذكره ، نود الإشارة إلى أننا نؤمن أن أولى الأولويات الواجب الإهتمام بها في حق مصر- قبل الحديث عن أي مشروع قومي يراد إقامته على أرض الوطن - تصحيح الأوضاع المعوجة القائمة فيه ، من تأمين حياة مواطني مصر من تعرضها للكوارث والأخطار الطبيعية ، كالتي تكررت في المقطم، أو في مدن وقرى محافظات البحر الأحمر وسيناء وأسوان ، التي تجتاحها سيول الأمطار كل موسم فتدمرها، إلى إعادة تقييم مؤسساتها الوطنية ، فنهضتها ، حتى تقوم بالواجب المناط لها على أكمل وجه. ذلكم أولى من تقديم فرص إستثمارية للوطن، لا تراعي حاله أو الوضع العام لمصر، المؤسسي والسياسي والجيوغرافي، الواجب تبنيه في كل مشروع قومي يراد نهضته بصورة سليمة. لذلك نتمسك بما أوصينا به في مقالاتنا السابقة في موضوع التمدين والزحف العمراني / راجع 1,4/ ، ونسأل الله أن نكون بذلك قد قدمنا النصح الواجب للوطن. وأخيرا أحب أن أذكر هنا في حق نهضة المؤسسات الوطنية أن العالم الدكتور الجريسى قدم للرئاسة في عام 1993م منهاجا إصلاحيا للعلم والبحوث، أراد به ، فبخبراته الواسعة التي تبناها فيه ، أن ينهض من شأن المؤسسات العلمية والبحثية لمصر، إلا أنه للإسف لم يفاد بجواب من جهة الرئاسة في شأنها. لإيماني بعظم جدواها ، دعاني العالم الكتور الجريسي لمعاونته في إستحداثها حتى تواكب متطلبات هذا الزمن ، فكان لي الشرف أن أعاونه في ذلك، والحمدلله الذي وفقنا في تلك المهمة. لقد قدمت نسخة مبسطة منها للمصريون في بداية هذا العام لعرضها على الأمة العربية والإفريقية جمعاء، التي نرجو لها التوفيق في مشوار نهضتها. أدعو الأستاذ محمود سلطان في ظل النهضة المرجوة لمصر والوطن العربي والأفريقي الأن، نشرها قريبا بإذن الله ، ولله الأمر كله. السيد الطرابيلي / مدير عام جيولين [email protected] [email protected] العالم الدكتور / أحمد الجريسي http://www.bgi.uni-bayreuth.de/organization/bgistaff/staffinfo.php?id=128 المراجع: /1/ http://www.almesryoon.com/news.aspx?id=33521 /2/ http://almesryoon.com/news.aspx?id=50281 /3/ د. رشدي سعيد ، " نهر النيل "، نشأته وإستخدام مياهه في الماضي والمستقبل، دار الهلال ، الطبعة الأولى، 1993 ، (ISBN: 977-07-0238-2). /4/ http://almesryoon.com/news.aspx?id=24016