بيقين -أو بشيء كبير منه- أجزم أن ما حدث خلال الأيام الماضية في العراق وتحديدا في الموصل (محافظة نينوى) هو نهاية حكم المالكي، وإن لم تكن تلك هي النهاية فهي على الأقل بداية النهاية. انتفض أهالي الموصل وعشائره ومختلف تكويناته الاجتماعية والعرقية والدينية لا ليحرروا مناطقهم فقط، ولكن ليزحفوا على العاصمة بغداد لوضع حد لسنين من الإقصاء والتهميش والتمييز الديني والمذهبي والعرقي ضدهم، هي سنوات حكم نوري المالكي. العراق منذ سقوط بغداد 2003 وهي نقاط التقاء لمعادلات إقليمية ودولية كبرى واستمرار حكم المالكي كل تلك السنوات الماضية كان رهنا باستمرار توازن تلك المعادلات الحاكمة لمجمل التفاعل السياسي وتوافقها على أن يراوح العراق مكانه ليظل خارج دائرة التأثير الإقليمي، بل وخارج معادلات القوة العربية ذاتها. لقد تم بيع العراق للنظام الإيراني على مذبح انتهاء حكم صدام والدور الإيراني الواضح في إسقاط أفغانستان ومن بعدها إسقاط بغداد، وتمت الإطاحة بموازين التعايش العرقي والمذهبي وضرب مكونات المجتمع العراقي وتغليب الطائفة الشيعية على باقي مكونات المجتمع ضمن إطار تقسيمي يجعل من مركزية الدولة العراقية ووحدتها أمرا من أحاديث التاريخ. فمنذ بداية التسعينيات والمنطقة الكردية تمارس نوعا من الاستقلال الذاتي أقرب للانفصال أو حتى الكونفدرالية الكاملة، والمنطقة الجنوبية خارج السيطرة أصلا، وبغداد العاصمة تتوزعها الطوائف وهيمنة حزب الدعوة بطائفيته وتحزبه السياسي وتبيعته الواضحة للدولة الفارسية (مذهبا وعرقا) ومن ثم كان الإقصاء والتهميش والتمييز العرقي للعرب السنّة هي النتيجة المنطقية لتلك المعادلات الحاكمة والتي قامت في غفلة من الزمن على وضع اختلالي تبعي بامتياز. لقد تم إدخال التقسيمين (العرقي والمذهبي) في العراق في تقسيم واحد بحيث تكون السطوة فيه للمذهب الشيعي والعرق الفارسي، ويضيع العرب السنة في أتون التوازنات الإقليمية والدولية. فإن تم التقسيم في العراق على أساسي مذهبي (سنة /شيعة) يتم إخراج أكراد العراق، وهم في جملتهم سنة من الناحية المذهبية، وبذلك تكون الغلبة للمذهب الشيعي. وإن تم التقسيم على أساس عرقي (عرب / أكراد / فرس/ تركمان) كان العرب أقلية أيضا، والهيمنة الإيرانية على عراق ما بعد صدام أتاحت لها إعادة التوزيع وتغليب فئة على فئات من حيث المذهب وتغليب حزب على بقية الأحزاب من حيث السياسية لتضمن تبعية كاملة على أساس المذهب والعرق. لقد تم إخراج الأكراد من دائرة التقسيم المذهبي، وتم إخراجهم مرة أخرى من دائرة التقسيم العرقي، وفي الحالتين كان الحفاظ على الأكراد ولو صوريا داخل دائرة العراق الموحد والتعبية الكاملة للهيمنة الإيرانية هي ضياع المكون العربي السني. لقد أسفر هذا التطفيف (العرقي والمذهبي) البشع على غلبة واضحة وهيمنة كاملة للمكون الفارسي الشيعي والذي هو في جملته تابع لإيران الفارسية قبل أن تكون شيعية. خرج الأمريكان من العراق بعد أن ضمن له حكم بريمر متاهة لا يمكن أن يخرج منها أبدا، فحل الجيش العراقي، ووسد الأمر إلى حزب تبعيته لإيران ليست محل شك، وأضاع العرب السنة ترددهم بين المشاركة في العملية السياسية وعدم المشاركة، وابتذلت ورقة التهديد بالمقاطعة حتى فقدت معناها. وتم بناء العراق الجديد على أسس مغايرة تماما للأسس الذي كان عليها كنظام مركزي موحد غير طائفي. لتقوم دولة الحكم الطائفي وتعيد بناء التوازنات العرقية والمذهبية وتتلاعب بديموجرافية العراق التاريخي لتضمن حكما يستمر أبد الآبدين. ولم يكن من سنن الله استمرار هذا الاختلال طويلا، حتى انفجر الموصل بعشائره وتكويناته، ولا زالت كرة اللهب تتحرك صوب العاصمة عليها تعيد التوازن للاختلال. العراق في أزمة عميقة لن يخرج منها ما دامت توازنات بريمر مستمرة، وما دامت دولة المالكي الطائفي قائمة، وما دامت المعادلات الإقليمية والدولية ضد مصلحة عروبة العراق وسنيته. المالكي جزء من المشكلة وجزء من أزمة العراق الكبرى بل هو (وحزبه وطائفته وتبعيته) موجودها ومنشئها ولن يكون جزءا من الحل في بدائل مستقبلية. العراق التاريخي يتشكل من جديد ويعيد بناء التوازنات ويعيد تشكيل مكوناته، وقد تفلح ثورة الموصل هذه المرة أو تتأخر نتيجتها، إنما الذين يدقون أبواب العاصمة بغداد الآن بكل عنف، لن يرجعوا، وإن رجعوا فإلى حين، وإلى أجل ريثما تنصلح المعادلات الحاكمة. وربما تكون ثورة الموصل انفجرت في ظرف زمني غير موات، وربما تتكالب عليها المعادلات الإقليمية والدولية وتؤدها في مهدها أو حتى تسحقها سحقا (سواء باستخدام سلاح الجو أو بطائرات أمريكية من دون طيار) إنما المؤكد أن الناس في العراق قد عرفت طريق الثورة على الحكم الطائفي. وغدا (قريبا) تصنع مستقبلا مشرقا.