بعيدًا عن التفسير التآمري للأحداث والمواقف لا يمكن فهم تلك الهبّة المفاجئة التي قامت بها عشائر وقبائل الموصول إلا تعبيرا عن فشل المشروع الأمريكي الذي بدأ مع سقوط بغداد 2003، وتوسيد أمر العراق إلى الطائفة الشيعية بترتيب مع إيران بعد التغييرات الديموجرافية التي جرت، وخلخلت التركيبة السكانية للبلد. ولم تكن سيطرة عشائر الموصل والخليط المركب من جنود النظام السابق وبعض الفصائل القتالية على أهم مدن العراق بعد بغداد والانسحاب المريع لجنود نظام المالكي إلا خطوة في مسار إعادة رسم خرائط المنطقة كلها، بل وإعادة ترتيب الأمور بعد سنوات من الإقصاء والقتل على الهوية، وخلخلة البنية السكانية للمنطقة. ما حدث في العراق لا يمكن فهمه إلا في إطار نموذج تفسيري جديد، يبتعد تماما عن العبارات المعدة سلفا، والنماذج المقولبة، والتفسيرات التآمرية، وكما تعلمنا من أستاذنا الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله: إن المقولة التي تفسر كل شيء، لا تفسر أي شيء على الإطلاق، وكان يقصد بها ما يسمى بنظرية المؤامرة. ما حدث في العراق ثورة حقيقية قام به أهالي الموصل ردا على سنوات من الظلم والقهر قامت بها قوات المالكي المدعومة من إيران والولايات المتحدة معا، ما حدث رد فعل عنيف على سنوات حكم طائفي بامتياز، قهرتهم فيها قوات المالكي وملشياته الطائفية، حتى أن تصريحات رموز التيار الصدري ووافقه تيار الحكيم فيها: أن ما هزم في الموصل هو قوات المالكي، وليس قوات الجيش العراقي. ما حدث في الأيام الماضية في العراق هو تداعيات استراتيجيات كبري (إقليمية ودولية) تستخدم كل الأوراق والكروت حتى المحترقة منها. لقد انتفض أهل الموصل وهم يعلمون أنهم واقعون بين مطرقة حكم طائفي، وسندان تطرف ديني لن يبقي ولن يذر. ولقد اختلطت الأوراق والملفات باختلاط المذاهب والإثنيات، والتطرف أيا كان مذهبه ودينه. الأمور في العراق تنذر بمقدمات عاصفة لن تكون آثارها على العراق وحده بل ستطال المنطقة كلها، وليس أدل على ذلك من وضع عنوان كبير على ثورة الموصل بأنها من فعل داعش، وداعش هي الكلمة المفتاح في شن حرب على ما يسمى بالإرهاب وتجيش دول المنطقة من أجل تحقيق الأهداف المرسومة، والتي عجزت العملية السياسية المشوهة عن حلها. العراق مقبل على مرحلة إعادة رسم الخرائط، وإذا تكفل طيران المالكي بالدعم المزدوج من إيران والولايات المتحدة بهزيمة حركة المقاومة فإن حركة النزوح التي تجاوزت في أول يوم نصف المليون من أهل الموصل لوحدها تتكفل بإعادة التوزيع الديموجرافي للسنّة في العراق. والأمر قطعا سيتجاوز العراق وقطعا سيتجاوز نظام المالكي، فاللعب بورقة الطائفية في منطقة فسيفساء عرقي ومذهبي، ومنطقة تقاطع استراتيجيات إقليمية ودولية كبرى ينذر بأوخم العواقب، فاللعب بورقة الطائفية هو لعب بالنار، وقد تحرق تلك النيران المشتعلة أيدي من يمسك بتلك الورقة ويمسك بتلابيب التوزيع الديموجرافي المذهبي، أو يظن أنه يتحكم فيها، فالمساحات الشاسعة وكتلة اللهب المتحركة في المنطقة الواقعة الواسعة بين سوريا جنوبا وتركيا والمنطقة الكردية شمالا لا يمكن التحكم فيها حتى النهاية، ويخطئ من يظن أنه يتحكم فيها حتى النهاية ولو دعمته القوى الإقليمية (كإيران) والقوى الدولية (كالولايات المتحدة). بؤرة الصراع في العراق تتداخل فيها المعادلات الإقليمية والدولية مع الأبعاد المذهبية ليس في العراق وحدها بل في منطقة الخليج، وما يسمى منطقة الشرق الأوسط كلها إذا ضممنا لها تركيا وهي أحد أهم الفاعلين في رسم مسار الأزمة العراقية، وتقاطعات الداخل الإثني التركي وخاصة قضية الاكراد، وامتداداتها في سورياوالعراق، وتماس الحدود الشاسعة والتداخل الاثني بين الدول الثلاثة لا يمكن التحكم في تداعيات انفجاره، ولا حتى في توجيه مساره، وإن ظن الظان بقدرته على ذلك. داعش ليست سوى ورقة الإرهاب المحترقة التي تلعب بها الأطراف (إقليمية ودولية) وتوظفها حين الحاجة لخلق عدو يستنفر الجهود ويوجهها لمحاربة عدو وهمي بدلا من دفع فواتير حل سياسي شامل لا يرضي النظم الطائفية في العراقوسورياوإيران. فالدارس لخط داعش منذ أن أنشاها الوكلاء المحليون يدرك أنها ليست إلا ورقة يتم توجيهها في خلق بدائل وساحات موازية، حتى يسهل إعادة ترتيب أوراق المنطقة بما يحقق مصلحة الراعي الدولي للوكلاء المحليين. نوري المالكي جزء من الأزمة الدائرة رحاها في العراق منذ أن حكم باسم الطائفة، ولن يكون جزءا من الحل، هو يهرب إلى الأمام في سبيل خلق معركة جديدة، وكذلك يفعل كل الطغاة إن لم تكن ثمة معارك خلقوها حتى لا يكون هناك مجالا للحل السياسي.