استمعت إلى حوار للسيد يوسف القعيد على قناة الحياة، وفوجئت بأنه لم يزل يدندن هو وأقرانه حول كلمة الشيخ يعقوب (غزوة الصناديق)، كأنه خطأ لا يغتفر، حقيقة تعجبت أن ضوضاء هذه الكلمة لم يزل ساريا حتى اليوم، وباشرت عملي إلى صلاة الفجر ثم نزلت للصلاة، وفي قريتي رجل مسن، من أوتاد المساجد بسيط المظهر والمخبر، حكيم، حكمته موروثة من التراث المصري الأصيل، دائم الكلام في السياسة، لكن متابعته للسياسة متابعة سطحية، فهو لم يسبر غورها ولم يتغلغل في دواليبها العميقة ولم يسر في دروبها السحيقة. وقد تعلمت من هذا الشيخ الكثير، وآخر ما تعلمتة منه، كان في تلك الليلة؛ إذ لقيته في طريقي إلى المسجد فقلت له: أسمعت –عمنا- ذلك اللغظ والهياج القائم على مقولة الشيخ يعقوب: (غزوة الصناديق)، إنهم يدندون بها حتى الآن! فطأطأ رأسه، ثم أوجز ما لم تستطع وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة إيجازه في عبارة سهلة بسيطة يحفظها كل مصري، حيث قال: يا بني (حبيبك يبلعلك الظلط، وعدوك يتمنالك الغلط). فقلت في نفسي: حولها ندندن. فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ما تقول في الصلاة ؟ قال: أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال صلى الله عليه وسلم: حولها ندندن. رواه أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة، وقال الألباني إسناده صحيح. والدندنة : أن يتكلم الرجل بكلام تسمع نغمته ولا يفهم. ومعنى قوله: "ما أحسن دندنتك" أي لا أحسن مسألتك الخفية. والمتأمل في النسيج المصري يجد مصر تنقسم أيدلوجيا إلى تيارين كبيرين، يضم كل تيار تحت ظلاله اتجاهات ومسميات متعددة، وكلا التيارين الكبيرين يزعم أن له الغالبية العظمى والقاعدة العريضة في الشارع المصري، وهذان التياران هما: الإسلامي والعالماني، ولا حرج على من يعتنق فكرة أن يعمل لنصرة فكرته، وفرض أيدولوجيته ما دام ملتزما بالوسائل الديمقراطية، ولا مانع من السعي لاستقطاب الأغلبية سلميا ودعويا. ولقد كان للعالمانيين المناصب الرفيعة في الإعلام والحظوة والقربى في السنوات الماضية، بينما كان الإسلاميون محظورين، مجرمين بغير جريمة، فخلت الساحة نسبيا للعالمانية بشقيها، اليساري الراديكالي الثوري، سواء كانوا شيوعين أميين، أو قوميين عنصريين، والليبرالي ذي الوجهة الغربية لأمريكا. وقد وقف الإعلام المصري الرسمي والخاص -إلا بقايا من الأحرار أهل الضمائر الحية- موقفا من الثورة يعلمه الجميع، ثم انقضت الثورة، ولما يتغير الإعلام، فقط تغير موقفه من الثورة وتحول أفراده -بشكل مضحك- إلى مناصرين للثورة مؤيدين لها ولمطالب الثوار، لكن لم يتغير فكر النظام البائد الذي تربوا عليه ونهلوا من مستنقعه الآسن، فعندما جاء أول اختبار ديموقراطي للثوار وهو الاستفتاء على التعديلات، راح القائمون على الإعلام يروجون إعلاميا لكفة (لا) وحدها بشكل يخلو من الإنصاف والحياد، وكأن الإعلام لم يزل إقصائيا يحمل عقلية النظام البائد، ويفصل الإرادة الإعلامية على حسب هوى القائمين عليها، مع تهميش الإرادة الشعبية التي أظهرت أن الغالبية صوتت ب (نعم) ولم ترع هذا الإعلام سمعا. ولنكن صرحاء: العالمانيون -بلا شك- كانوا مقربين من النظم البوليسية السابقة، كان النظام يخولهم رئاسة المناصب الفكرية والسياسية والثقافية ويقصي غيرهم، بل ويستأصل شأفة غيرهم بالقتل والاعتقال، فالعالمانيون –وإلى الآن- هم عامة رؤساء الجامعات، وأصحاب عدد من الجرائد والمجلات، والإعلاميون من السادة والسادات، والنظام البائد لم يكن راضيا بديلا غيرهم، حتى في أحلك لحظات سقوط النظام وتهاويه حاول أن يتماسك فغير بعض الوجوه البغيضة للمصريين، فكان منها ما يضحك؛ إذ أقال –مثلا- (فاروق حسني) وزير الثقافة، ووضع أخاه العالماني المغالي في عالمانيته (جابر عصفور) مكانه، يعني (شالوا ألدو وحطوا شاهين). ولأن العالمانيين ما زالوا أكثر نفيرا، فقد انزعجوا بخروج نسبة الاستفتاء مخيبة لآمالهم، وسقط في أيديهم، كيف كانوا أكثر نفيرا ولم يملكوا الشارع المصري؟! كيف وقد سئمنا من وصفهم لأنفسهم بالنخبة والصفوة وغير ذلك من أوصاف الصلف والتعالي والكبر؟! حتى دفع ذلك الكبر من يكتب ضجرا: الشعب يريد إسقاط النخبة. أيها السادة: لقد كنا في ميدان التحرير وسائر الميادين مصريين لا غير، على قلب رجل واحد من أجل إسقاط النظام وإرساء الديمقراطية، فكنا قمنين أن نبلغ آمالنا ونحقق بغيتنا. لكننا –وبصراحة- سقطنا في أول اختبار ديموقراطي، حينما تجدد الصراع الفكري القديم بين التيارين المذكورين آنفا، ولا أقول نشب الصراع ولكن تجدد، فهو صراع دائم سرمدي، فالإسلاميون يدينون بشمولية الإسلام وإحاطته بجميع مناحي الحياة، أما العلمانيون فيطعنون في هذه الشمولية، ويصرون على تشبيه مشروع الإسلاميين بالكهنوت والسلطان الكنسي في العصور الوسطى. ومهما يكن من أمر فنتيجة الاستفتاء كانت (نعم كبيرة) وكان الشيخ يعقوب يحاضر في قناة الناس عندما وصله الخبر، ويبدو أنه تاه فرحا بهذه النتيجة وبالغ في هذه الفرحة فظهرت في كلامه هنات أخذت على الشيخ حيث قال ما قال، فوجد العالمانيون الفرصة سانحة، فتلقفوا قوله وأرغوا فيه وأزبدوا وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها إلى الآن، لدرجة أني سمعت مساء أمس من يراجع كلام الشيخ مرة أخرى ولما ينسه. نعود إلى شيخي القروي الحكيم، حيث سألته: أنت بذلك تقول أن الشيخ يعقوب أخطأ؟ قال: نعم أخطأ، واعتذر، واعتذر عنه محبوه، يعني ما قامتش القيامة، مش نهاية العالم زي ما بيقولوا. فعرضت على الشيخ قول نجيب ساويرس، حيث قال: احنا اتكلفتنا في الاستفتاء، لكن الخناقة الجاية مستعدين لها تمام. أليست خناقة، وقول معركة انتخابية وحملة دعائية، أليست كلها ألفاظا حربية؟ لماذا لم يفسر قول ساويرس كنوع من الإرهاب؟ لماذا لا نتهم الرياضيين بالإرهاب عندما يقولون: خط الدفاع، وخط الهجوم، ورأس الحربة، وأطلق من قدمه صاروخا مدويا، وطلقة لا تصد ولا ترد، وسدد قنبلة، ولابد للفريق من الفوز في المباراة الحاسمة والمعركة الفاصلة؟ ألا يعد كل ذلك من التلويح بالإرهاب؟ قال الشيخ: ولكن الشيخ يعقوب يقول: اللي مش معانا يروح أمريكا وكندا!. قلت: فما رأيك، فيمن قال: الصوت من (لا) بألف صوت من (نعم)؛ لأن اللي قال: (لا) النخبة المثقفة والصفوة، واللي قال: (نعم) أبناء الأرياف والقرى والنجوع السذج. قال الشيخ: دي قلة أدب [هكذا قال]، دا غلب قوم سيدنا نوح لما قالوا: (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي)، وهم كانوا أرذل خلق الله بس من جهلهم ما يعرفوش. نعم، وهناك من قال: البلد بلدنا والمسلمون ضيوف ينبغي أن نعاملهم ونكرمهم كما يعامل الضيف. وأذكر –أيضا- عندما قال بوش الابن: إنها حرب صليبية، وجدنا من يدافع عنه من أبناء جلدتنا ممن يؤمنون بالتفسير المادي للتاريخ، ويؤمنون بأن الحروب كلها كانت اقتصادية بحتة لا تمت بصلة للعقائد والأديان حتى غزوات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وجدنا هؤلاء يزودون عن بوش قائلين: الرجل موتور مجروح، إنها زلة لسان، ثم إنه قد اعتذر عنها! وكذلك كلمة الشيخ يعقوب زلة لسان، وقد اعتذر عنها!! وأما من يتهم الإسلاميين باستخدام الدين والمساجد في الدعاية ل(نعم)، فلا أدري ما العيب في ذلك، إذا كان الخصم قد استخدم الدين أيضا والكنائس في الدعاية ل(لا). سبحان الله! رمتني بدائها وانسلت. أليس هذا هو عين فعل الحزب الوطني عندما كان يحرم على غيره استخدام المساجد في الدعاية الانتخابية ويلقي التهم جزافا، ثم يذهب هو بوفوده الرسمية إلى الكنائس لكسب الأصوات! كذلك هؤلاء –واليوتيوب يشهد- مصورون في الكنائس يدعون ل(لا)، والقساوسة مصورون يدعون ل(لا) ويحذرون من (نعم) ويخلطون السياسة بالدين، ويحذرون مما أسموه (حزب الكنبة) والمقصود بهم الكسالى الجالسون على الكنبة لا يذهبون للتصويب، ثم يشتكون بعد ذلك –على حد قول القس- من اضطهاد المسلمين إذا خرجت النتيجة لصالح (نعم). يا سادة: إننا فقط نريد الديموقراطية؛ ولا أحد يتغنى بالديموقراطية مثل العالمانيين، فيكيف يتأففون مننها الآن؟! حتى يسئل أحدهم: كيف لو أتت الديموقراطية بالإسلاميين؟ فيجيب: (تولع). أي: الديموقراطية تولع. وحتى يذكر الأستاذ عصام سلطان نائب رئيس حزب الوسط معلقا على مؤتمر "دستور بلدنا" والذي جمع كل الليبراليين المصريين ويقول: "كادوا أن يلقوني في النيل" لمجرد الاختلاف معهم في الرأي. أين الحريات وقبول الآخر؟! أليست تصرفاتكم هذه وقول صاحبكم: (تولع) أشبه بفعل عابد صنم العجوة في الجاهلية الذي كان يتأله لصنمه ويعبده فإذا جاع أكله؟!. يا سادة: أفيقوا واثبتوا على مبادئكم، كلنا مصريون، كلنا يبغي خيرا لهذا البلد العظيم ويريده بلدا مدنيا ديموقراطيا، واختلاف الرؤى الإصلاحية يفصل فيه الصندوق، فلا تصموا الشعب بالغباء والسذاجة، ودعوا الصندوق يحكم بيننا في كل استفتاء أو انتخاب، أليست هذه هي الديموقراطية؟ إن كانت هي هي، فحولها ندندن.