في ضوء المقاربة الفكرية للوضعين الدولي والداخلي يمكن رصد أحد أهم الظواهر اللافتة لنظر المراقبين عن كثب، وهي تلك الخروقات المتتالية للوعود التي قطعتها القيادة السياسية المصرية على نفسها، وعلاقة تلك الوعود بالسياسة الداخلية المصرية من جهة واستراتيجية البديل المؤجل في حرب الأفكار التي تشنها حكومة المحافظين الجدد الأمريكية. إن الاستراتيجية الصهيوأمريكية التي وضعت نواتها في أعقاب السادس من أكتوبر 1973 طبقت عمليا على اتفاقات كامب ديفيد، ثم أوسلو وطورت آلياتها بعد حربي الخليج وتبدت في خطة خارطة الطريق مؤخرا، ويتجلى فيها بوضوح تناسق السيناريوهات التي تتبعها الإدارة الأمريكية في التعاطي مع القضية الفلسطينية أولا وتوابعها ثانيا، وهذا يحتاج- بلا أدنى شك- إلى استقراء تحليلي للمقارنة بين المنهج الأمريكي للعولمة (الأصل) والنهج السياسي الداخلي (المسخ). الأصول الفكرية لخارطة الطريق تعتمد هذه النظرية( الأصل ) على فكرة بسيطة اقتبسها ثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنجر من مقولة ل" فاكيه" مفادها: إنه متي ساد السلم أوربا فإن الشعب الذي يبقى مسلحا يفتتحها ويستعبد هذا الشعب شعوب أوربا وسيرغم المسالمين من أصحاب الذكاء والعاطلين من النشاط والعزم على العمل لصالح المحتل وحده"( ) ثم طبقها كيسنجر والإدارة الأمريكية، المحافظون الجدد بعد إضافة تعديلات طفيفة وفقا لظروف ومتغيرات مناطق الصراع في العالم. وقد أكدت التجربة أن اتفاقيات كامب ديفيد لم تكن منبتة الصلة عن المراحل التالية في تحويل دفة الصراع العربي الغربي لصالح العدو الصهيوني، فهذه الاتفاقية واحدة من الاتفاقيات التي اتبعت فيها الاستراتيجية نفسها، حيث حصلت مصر بموجبها على مساحة من أرضها منزوعة السلاح والسيطرة ( ) مقابل الخضوع لترسيخ فكرة الاستسلام ، بينما جنت إسرائيل والولاياتالمتحدة مكاسب جمة ليس أكبرها تفتيت الموقف العربي الواحد والدفع باتجاه الاستسلام( وليس السلام كما يروج كتاب المارينز ). وبناء عليه، أصبحت منطقة الشرق الأوسط مؤهلة للاستعمار ثم واصلت الولاياتالمتحدة تطبيق حرب الأفكار المطورة على نصوص اتفاقيات أوسلو( وعود = صفر ) مقابل وقف الانتفاضة الأولى، وتهجين السلوك الفلسطيني المقاوم، وسارت بعد الانتفاضة الثانية عبر مسار اتفاقيات شرم الشيخ إلى خارطة الطريق على نفس الاستراتيجية، وتتلخص الفكرة بإيجاز في تقديم وعود على الورق لخصمهم( الفلسطينيين) مقابل الحصول على خطوات إجرائية ملموسة على الأرض من السلطة الفلسطينية لصالح توسع المحتل وأمنه، وسلبت – في الوقت نفسه- من السلطة الفلسطينية أدوات المقاومة والممانعة ودمرت أجهزتها الأمنية مع احتفاظ إسرائيل بكل عناصر قوتها، وبالتالي فقدت الوعود والاتفاقيات قيمتها وتحولت بفعل ازدياد القوة إلى سراب، وأظن أن الضغوط التي تتعرض لها حماس بعد فوزها لا تخرج عن هذه الاستراتيجية لنقل الفكر المقاوم إلى مربع لذة الانتظار. الظرف المحلي بعد عقد اتفاقيات كامب ديفيد تخلص النظام المصري من مقومات إدارة الصراع مع إسرائيل، وتنازل عن تطوير أدوات المعركة ، وتفرغ الحكم تماما – بإيحاء أو بوعي سيان هذا أو ذاك- للساحة الداخلية واستنسخ نفس الأدوات الأمريكية سالفة الذكر بتجريد الشعب من أدوات محاسبة النظام مقابل وعود فئوية وحزبية ضيقة، فأغلقت الأحزاب والصحف المناوئة له مثل( الشعب- والدستور) ووضعت النقابات المشاغبة والأندية النشطة تحت الوصاية الأمنية، وحوصرت الجامعات بالقوانين السالبة للحرية وبجحافل الأمن والمدرعات، ولما كانت التربة الاجتماعية مواتية لتفريغ المؤسسات الشعبية والحزبية من براعم النهوض مقابل وعود سيادية وحزبية باقتسام المصالح، على أن تطلق يد السلطة وحزبها في عمليات قمع تشريعي وقانوني وبدني حتى سويت الساحة تماما لفكرتي العزوف عن المشاركة والتوريث. وكما تنازلت القيادة المصرية عن أسباب قوتها طواعية مقابل سلم هو في حكم الواقع هدنة مؤقتة لصالح الخصم، تنازلت معظم القوي الشعبية عن أدوات عافيتها واستسلمت طمعا في مكاسب فردية ضيقة هي أقرب ما تكون إلى فتات موائد اللئام. في الوقت نفسه، احتفظت السلطة الحاكمة ( ورديفها الحزب الوطني ) بقوتهما كاملة غير منقوصة، ولم تتوقفا عن دعم قوتهما القمعية، بينما استكان الشعب لأدوات قمعه تماما كما استسلمت الحكومات العربية للوعود الأمريكية فجعلت السلام خيارا استراتيجيا دون أن تفكر ولو للحظة في عواقب التنازل عن أدوات ومقومات الممانعة، ولم تدرك القوي السياسية والشعبية أن وعود الرئيس السرابية( إلغاء الطواريء وحبس الصحفيين و....) ستظل مجرد نوايا تحت التشييد، ولكنها-أبدا- لن تكون قابلة للتنفيذ. عالم الأفكار • الإنسان محاط بعالم من الأفكار، ولابد له في تعامله مع العالم الخارجي من وضع مشاريع فكرية تستكشف ما حوله وتخترق جهله بنفسه ليتلافى الوقوع بين فكي الجهل والوهم. • إن الأفكار الخاطئة هي أساس جلب المظالم والشرور لأنفسنا وللآخرين . [email protected]