حينما تم الإعلان عن تأسيس حركة المقاومة الإسلامية حماس في العام 1988 على إثر الانتفاضة الفلسطينية الأولى, كانت المقاومة هي طابعها العام والأبرز, فيما كان العمل السياسي يشغل حيزا محدودا من الاهتمام العام للحركة, وهذا الأمر يسهل فهمه بالنظر إلى الظروف الموضوعية التي كانت تلف بالقضية الفلسطينية في تلك المرحلة من تاريخها, حيث كانت المواجهة مفتوحة على مصراعيها وبدون قيود بين الاحتلال الإسرائيلي من جهة والشعب الفلسطيني بجميع مكوناته وفصائله من جهة أخرى, ولم يكن مطروح حينها أي مشروع للسلام أو التسوية. ومع التطورات الخطيرة التي عرفتها القضية الفلسطينية منذ الإعلان عن موافقة منظمة التحرير الفلسطينية على القرارين 242 و338 في مؤتمرها التاسع عشر بالجزائر في العام 1988, أي الاعتراف ولأول مرة بحق الكيان العبري في دولة يهودية آمنة فوق أرض فلسطين التاريخية, مقابل اعتراف إسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية وقبول التفاوض معها, وانعقاد مؤتمر مدريد "للسلام", وتتويج كل ذلك الحراك والتقارب بين العدوين اللدودين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان العبري باتفاق أوسلو في العام 1993، وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية في العام الموالي برئاسة الشهيد أبو عمار, ومراجعة ميثاق منظمة التحرير بشطب المواد التي تدعو إلى محو إسرائيل أو محاربتها. في ظل هذه المتغيرات, وجدت حركة حماس نفسها مجبرة على دخول المعترك السياسي والإدلاء بمواقفها تجاه ما يجري من تطورات, خاصة وأنها أصبحت قوة شعبية لا يمكن تجاوزها في كل المعادلات, فعارضت موافقة منظمة التحرير على القرارين 242 و338, واعتبرت ذلك اعترافا مجانيا بالكيان العبري على أرض تنظر إليها على أنها وقف إسلامي لا يجوز التفريط بشبر واحد منها, ثم عارضت وبشدة اتفاق أوسلو وجميع ملحقاته والاتفاقات التي ترتبت عليه كاتفاق "تينيت". وحاولت إيقاف سيل هذه التنازلات من خلال تصعيدها للعمليات الاستشهادية داخل الخط الأخضر, وقد كانت ضريبة مواقفها هذه باهظة الثمن, فمن ملاحقة الطائرات العسكرية الإسرائيلية المستمرة لقادتها وكوادرها , والذي نجم عنه كما هو معلوم استشهاد قيادات بارزة في الحركة كمؤسسها وزعيمها الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي واسماعيل أبوشنب... إلى الاعتقالات والتضييق الذي طالها من طرف السلطة الفلسطينيةالجديدة طيلة السنوات التي سبقت انتفاضة الأقصى, وكلنا يتذكر الإقامات الجبرية التي فرضتها السلطة على الشهيد أحمد ياسين, وسلسلة الاعتقالات التي تعرض لها كل من محمود الزهار والشهيد عبد العزيز الرنتيسي وغيرهم من القادة. ومع انطلاق انتفاضة الأقصى في العام 2, أبلت حركة حماس وبقية الفصائل الفلسطينية البلاء الحسن في الدفاع عن حرية وكرامة الشعب الفلسطيني, وكان الشهداء -من كل الفصائل- يسقطون كل يوم في ساحة الشرف مسطرين بدمائهم الزكية معالم الوحدة الوطنية الحقيقية, بعدما عبثت بها متاهات أوسلو. وبعد خمس سنوات من الكفاح والصمود, اندحرت جيوش الاحتلال مذعورة خارج مدينة غزة بعدما تلقت دروسا قاسية من مجاهدي القسام وسرايا القدس وكتائب الأقصى وغيرهما من فصائل المقاومة, ليثبت للعالم أن هذا العدو لا يفهم سوى لغة واحدة أي لغة البندقية. في هذا الوقت, تأكد لدى حماس فشل اتفاقية أوسلو, باعتبار أن إنجاز تحرير غزة جاء بناء على المقاومة وليس بناء على اتفاقية أوسلو, فرفعت شعار "شركاء في الدم شركاء في القرار"، لتكشف عن رغبتها في ممارسة دورها في تسيير الشأن العام من داخل المؤسسات الرسمية أي المجالس البلدية والمجلس التشريعي والحكومة. هذا التحول الإستراتيجي في مسار الحركة, رحبت به أطراف داخلية وخارجية, وراهنت عليه في إحداث تغيير جذري في فكر وثوابت الحركة أملا في تدجينها وتحييدها كما حدث سابقا مع منظمة التحرير الفلسطينية. لكن حماس وبعد وصولها إلى السلطة بطريقة ديمقراطية في انتخابات شهد القاصي والداني بنزاهتها، وتشكيلها للحكومة, صارت أكثر إصرارا على ثوابتها المعروفة خلافا لجل التوقعات, وحاولت الجمع بين السلطة والمقاومة، لخوض تجربة جديدة تقطع مع ماض موسوم بالتنازلات. الشيء الذي أغضب "إسرائيل" وحلفاءها عبر العالم, ودفعها لاعتبار حكومة حماس حكومة إرهابية معادية ما لم تعترف ب"إسرائيل" وتلقي السلاح وتقر بالاتفاقيات السابقة, نفس الشروط ستتبناها أيضا كل من أمريكا والإتحاد الأوروبي وستطلب من الحكومة الجديدة الاستجابة لها كشرط للإستمرار في تقديم الدعم المالي للسلطة الفلسطينية, ليتضح للجميع أن المساعدات التي كانت تقدم للشعب الفلسطيني سابقا كان وراءها ثمن سياسي باهظ. ومع امتناع الحكومة الفلسطينيةالجديدة عن الاستجابة للإملاءات الخارجية, واصطفافها في خندق حقوق شعبها الشرعية الثابتة التي لا تقبل المساومة, ورفعها لشعار المقاومة كخيار إستراتيجي لتحرير الأرض والإنسان, بدأ التكالب العالمي ضدها يزداد شراسة واتساعا, وصارت خطط إفشالها تحبك بالليل والنهار في الداخل والخارج, وكلما فشلت خطة إلا وتم تجريب خطة أخرى, فمن فشل عزل الحكومة عن محيطها الإقليمي والدولي إلى فشل الحصار الاقتصادي إلى إثارة الفتن الداخلية وتأجيج الصراعات والخلافات بين أهم مكونين فلسطينيين فتح وحماس. ولما تبين "لإسرائيل" فشل كل المؤامرات السابقة في إسقاط تجربة حماس, قررت أن تدخل على الخط مباشرة للعبث بالداخل الفلسطيني عبر تحريك أذيالها وعملائها, فنجحت في تأجيج المواجهات المسلحة بين فتح وحماس, وفي خلق حالة توتر دائمة بين مؤسستي الرئاسة والحكومة. في خطوة خطرة, لجأت "إسرائيل" إلى التصعيد العسكري الإرهابي لجر حماس إلى الرد بحيث يصبح مبرر ضربها متوفرا, فاغتالت القائد البطل جمال أبو سمهدانة مؤسس لجان المقاومة الشعبية القريبة من حماس, والمشرف العام على القوة التنفيذية التي أحدثتها وزارة الداخلية, وأتبعت هذا الاغتيال الجبان بمجازر بشعة استهدفت مواطنين أبرياء على شاطئ بيت لاهيا وتسببت في إبادة أسرة بكاملها. أمام هذا التصعيد الخطير, لم يكن منطقيا ولا مقبولا أن يستمر الجناح العسكري لحركة حماس في هدنة مع "إسرائيل" دامت حوالي شهرا, فأطلق العنان لصواريخ القسام لتمطر من جديد المستوطنات الإسرائيلية, وتدخل الرعب في قلوب المحتلين الغاصبين, معلنا بذلك عن انتهاء الهدنة. هذه العودة "القسامية" إلى ساحة المقاومة, وما قد تحمله من مخاطر حقيقية على الأمن القومي الإسرائيلي, أغضبت كثيرا زعماء الكيان الصهيوني وجنت جنونهم, فلم يكن أمامهم سوى العودة إلى ممارسة خطاب التهديد بالإغتيال في حق قادة حماس السياسيين بمن فيهم الوزراء دون الإكثرات إلى الحصانة السياسية التي يتمتعون بها بحسب القانون الدولي. إن حماس لا يمكنها أن تصمد إلى ما لا نهاية أمام هول الضغوطات الخارجية والمؤامرات الداخلية, وسيكون من الأفضل لها أن تنأى بنفسها بعيدا عن مهازل الحكم الصوري, وأن تنحاز إلى شعبها لتدوب في آهاته وآلامه بعدما بلغت الهجمة الإسرائيلية الوحشية على الشعب الفلسطيني حدودا لا تطاق, وهذا مطلب بات يتكرر كثيرا في أوساط المناصرين والمتعاطفين مع حماس سواء داخل فلسطين أو خارجها. حماس، بثباتها على مبادئها، تكون قد برهنت للجميع بما لا يدع مجالا للشك على أن دخول بوابة الوزارة مكلف جدا, وأن الاستمرار في ممارسة الحكم دون تقديم تنازلات هنا وهناك أقرب إلى المستحيل في ظل موازين القوى القائمة, كما فضحت الإدعاءات الزائفة للقوى العظمى في الحرص على الديمقراطية وحقوق الإنسان في عالمنا العربي, كما كشفت أذيالهم في المنطقة, الذين لا ترضى أمريكا عنهم بديلا في الحكم ولو كان ذلك على حساب إرادة الشعب. المصدر : العصر