ربما لم تتمتع إسرائيل بالأمن من ناحية قطاع غزة في أي وقت منذ تشكل السلطة الوطنية الفلسطينية علي إثر توقيع اتفاقات أوسلو في سبتمبر1993, مثلما تتمتع به الآن في ظل سيطرة حركة حماس علي القطاع, فهذه الحركة التي تنتمي فكريا إلي حركة' الإخوان المسلمين' تجنبت منذ تشكلها في قطاع غزة الدخول في مواجهة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي, معتبرة أن معركتها الأساسية مع' منظمة التحرير الفلسطينية' التي تتبع نهجا علمانيا, وتحديدا مع الفصائل اليسارية في المنظمة مثل الجبهتين الشعبية والديمقراطية, أما فتح فأولتها مكانة خاصة علي أساس أن لبعض من قادتها جذور' إخوانية' ومن ثم فالجسور يمكن أن تستأنف من جديد معهم لاسيما وأن عرفات شخصيا كانت له اتصالات وعلاقات لم تنقطع مع التيار الإسلامي والإيراني تحديدا. وفق هذه الرؤية ركزت الحركة, كما جاء في ميثاقها, علي هدف بناء' الفرد, الأسرة ثم المجتمع, وصولا إلي الدولة الإسلامية' وهذه الدولة سوف تتولي تحرير أرض فلسطين من البحر إلي النهر, ومن ثم فإن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لم تشغل حيزا يذكر في فكر قادة الحركة, وقد جاء هذا التوجه لاحقا علي إثر علو مكانة فصائل منظمة التحرير التي شاركت في أعمال الانتفاضة الأولي التي اندلعت في الثامن من ديسمبر من العام1987, فقد ضغط شباب الحركة من أجل السماح لهم بالمشاركة في أعمال المقاومة ضد قوات الاحتلال, ونزولا علي رغبة الشباب, وقع التغير الأبرز في فكر' الإخوان المسلمين' في فلسطين, فتخلوا عن نهج بناء الفرد والأسرة إلي المشاركة في أعمال المقاومة, ولذلك جري إعلان قيام حركة المقاومة الإسلامية حماس وصدر البيان الأول لها في الأسبوع الثاني من الانتفاضة, ودخلت في سباق محموم مع القيادات الوطنية علي انتزاع صفة المسئولية عن تفجير الانتفاضة, وقيادتها. وأكدت حركة حماس أنها حركة مقاومة لا تتعاطي السياسة, ترفض اللعية السياسية برمتها, ومن ثم رفضت أوسلو ورفضت السلطة الوطنية, وكانت كلما سارت جهود التسوية قدما, تقدم علي عمليات تفجيرية داخل إسرائيل وضد مدنيين, فكانت تصيب العملية التفاوضية بعطب شديد. رفضت المشاركة في الانتخابات التشريعية الأولي التي جرت عام1996, مؤكدة رفضها للعملية برمتها, وظلت تتبع نهج المقاومة. وقد تغير الموقف اعتبارا من عام2005 عندما شاركت في الانتخابات البلدية وحققت تقدما كبيرا, عندها قررت خوض الانتخابات التشريعية الثانية التي جرت في يناير2006, وفازت بالأغلبية التي مكنتها من تشكيل الحكومة ثم قادت حكومة الوحدة الوطنية التي ترتبت علي جهود الوساطة السعودية اتفاق مكة- وهو الأمر الذي انتهي بسيطرة حركة حماس علي القطاع في يونيو.2007 ومنذ ذلك الوقت تغيرت الأوضاع كثيرا فالحركة صفت وجود السلطة الوطنية في القطاع, تعاملت مع القطاع علي أنه نقطة الانطلاق علي طريق إنشاء الدولة الإسلامية التي ستتولي تحرير أرض فلسطين من البحر إلي النهر, ليست في عجلة من أمرها, فقط مطلوب التعامل مع غزة علي أنها' دويلة مستقلة' لها حدود دولية مع مصر, ومن ثم فالنضال ينبغي أن يوجه جنوبا لإجبار مصر علي فتح معبر رفح, فتنساب الحركة في الاتجاهين, حركة البضائع, السلاح, المال الإيراني, وبعد ترسيخ الوجود في القطاع يأتي الدور علي الضفة الغربية. لذلك وجهت الحركة جهودها بداية علي فتح معبر رفح, والقفز فوق السيادة المصرية من خلال إنشاء شبكة من' الانفاق تحت الأرض' لتهريب كل شيء, بل أن الحركة استحدثت إدارة للأنفاق. حاولت الحركة أن تبعث برسالة لمنتقديها بأنها لا تزال حركة مقاومة, فأسرت الجندي الإسرائيلي' جلعاد شاليط' ورفضت تجديد الهدنة أو التهدئة مع إسرائيل, وقصفت مدن الجنوب الإسرائيلي بعدد من الصواريخ, فكان العدوان الإسرائيلي علي أهل القطاع في شهري ديسمبر2008 ويناير2009, وهو العدوان الذي كان بمثابة رسالة واضحة لحركة حماس, مؤداها افعلوا بأهل القطاع كما يحلو لكم, تحرشوا بمصر كما تودون, لكن عليكم وقف كافة أشكال العمل المسلح باتجاه إسرائيل, وجهوا سلاحكم إلي الفصائل الفلسطينية الأخري, إلي حرس الحدود المصريين... حافظوا علي أمن الحدود مع إسرائيل وأفعلوا ما تشاءون..... وقد وصلت الرسالة واستوعبت الحركة الدرس, فغالت في تأمين الحدود الإسرائيلية, وخصصت لها العدد الأكبر من عنصر القوة التنفيذية, وتوقفت كافة أشكال القصف باتجاه المدن الإسرائيلية... تفرغت الحركة بعد ذلك في القيام بحملات إعلامية ضد مصر, ودفعت بعشرات المتحدثين باسمها إلي الفضائيات العربية ليتحدثوا عن' الحصار المصري علي القطاع' وعن أسباب إغلاق معبر رفح, وأنه معبر فلسطيني مصر, فما دخل إسرائيل به ؟ القضية الأولي لحركة حماس الآن ليست تحرير الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية, بل هي تأمين الاستقلال التام لقطاع غزة, وذلك يعتمد علي إقناع أو بالأحري إجبار مصر علي فتح معبر رفح علي نحو دائم, متناسين أن معبر رفح هو لمرور المسافرين من الأفراد لا البضائع, وأن هناك ستة معابر للقطاع مع إسرائيل, وأن البنية التحتية للقطاع مرتبطة تماما بنظيرتها الإسرائيلية, وأن القطاع لا يمكن أن يحقق الاكتفاء الذاتي او يتخلي عن شبكة الإمدادات الإسرائيلية, لذلك رحبت إسرائيل بفكرة' إعادة القطاع إلي مصر ليكون مسئولية مصرية' وهو أمر ترحب به حماس بقوة علي أساس أنه سيخلصها من الارتباط بإسرائيل من ناحية, ويضعها علي أول طريق بناء الدولة الإسلامية المأمولة, لذلك جاءت الكلمات واضحة علي لسان وزير خارجية حكومة الحركة المقالة, محمود الزهار, عندما قال' أن الحركة تعتبر الضفة الغربية مختطفة من قبل السلطة الوطنية'. وفي الوقت الذي ترحب فيه الحركة بأن يكون القطاع مسئولية مصرية, تقوم بتصفية كل ما له علاقة بالوجود المصري هناك, ولعل أخر هذه الجهود إزالة النصب التذكاري للجندي المصري المجهول من ميدان الشهداء بمدينة رفح, وهو قرار يأتي ضمن خطة متكاملة لإزالة كل ما له علاقة بمصر تمهيدا لإضفاء الطابع الذي يتوافق ورؤية حماس وشبكة ارتباطاتها الإقليمية, فربما تشهد ميادين مدن القطاع صورا لآيات الله وإلي جوارها أعلام تركية.. أو اية أعلام أخري المهم ألا تكون مصرية!!!!