لا يمكن فصل الفوز الكبير غير المسبوق فى تاريخ الجمهورية التركية الحديثة الذى حققه حزب العدالة والتنمية عن مجموعة من المحددات الهامة التى يجب ان تتضح للقارىء وهى كالتالى : أولاً : حجم الإنجازات غير العادية التى تمكن حزب العدالة والتنمية من تحقيقيها خلال فترة قصيرة تتجاوز العشر سنوات بقليل والتى استطاعت أن تغير وجه الحياة داخل تركيا وتنقل المواطن التركى نقلة عظيمة ففى مدينة اسطنبول – على سبيل المثال – وقبل حكم العدالة والتنمية – كانت المدينة تصنف ضمن أسوأ مدن العالم من حيث النظافة والخدمات العامة حيث كانت أكوام القمامة تسد الشوارع ، وكانت الكهرباء دائمة الانقطاع ، أما المياه فقد كانت فى غاية السوء ولا يستطيع المواطن الشرب منها وكان عليه الانتظار حتى تمر عربة المياه ليأخذ منه احتياجاته ، أما المواصلات فقد كانت قطعة من العذاب حيث لم تكن هناك شبكة مواصلات بالمعنى المعروف .. أما الآن وبعد مرور كل هذه السنوات للعدالة والتنمية فى الحكم فإن اسطنبول – وما ينطبق على اسطنبول ينطبق على غيرها من الولايات الأخرى – أصبحت مدينة أخرى تماما حتى أنها كانت قاب قوسين من الفوز بتنظيم الألعاب الأوليمبية قبل أن تفوز بها طوكيو فى التصفيات النهائية وهو ما يعكس حجم الإنجازات الهائلة فيها خاصة فى مجال البنية التحتية والمواصلات والنظافة ، والتى توجت بمشروع مترو " مرمراى " الذى افتتح أردوغان قبل أشهر قليلة المرحلة الأولى منه والذى يربط بين آسيا وأوروبا عبر نفق تحت مضيق البسفور كان حلما يراود الأتراك منذ عهد السلطان عبد الحميد الثانى وانتظروا سنوات طويلة قبل أن تحقق لهم الحكومة الحالية ذلك الحلم بتكلفة وصلت حتى الآن إلى ما يقرب من خمسة مليارات يورو ، كما يتم الآن تشييد أكبر مطار فى أوروبا كلها متفوقا على مطار فرانكفورت الألمانى وهو مطار السلطان سليم الأول فى مدينة اسطنبول الدولة هنا حاضرة أمامك كل يوم ولكن ليس بعساكرها وحواجزها الأمنية وحملات المداهمات ولكن برصف الطرق وتشجيرها ومنظومة النظافة التى لا تتوقف على مدار الأربع وعشرين ساعة وحركة التشييد العمرانى التى لا تهدأ . حجم الإنجازات التى أنجزها حزب العدالة والتنمية امتد إلى قطاعات هامة فى الدولة خاصة فى مجالى التعليم والصحة فيكفى أن نعلم أن ميزانية التعليم وصلت هذا العام إلى 36 مليار ليرة ( ما يقرب من 120 مليار جنيه مصرى ) .
كما ارتفع الناتج القومى التركى من 230 مليار دولار بنهاية عام 2002 إلى 786 مليار دولار وانعكس ذلك على متوسط دخل الفرد التركى الذى ارتفع من 3500 دولار فى السنة بنهاية عام 2002 إلى 10504 دولار بنهاية عام 2012 أى ارتفع ما يقرب من ثلاث أضعاف . كل هذه الأرقام وغيرها مما لا تتسع المساحة لذكرها جعلت المواطن التركى يدرك أنه أمام منظومة من الإنجازات الحقيقية التى انعكست عليه مباشرة ولم تقتصر الاستفادة منها على مجموعة من رجال الأعمال أو النافذين فى الدولة وفقط . أما الأمر الثانى والذى أثر بصورة كبيرة على الانجاز الذى حققه الحزب فى الانتخابات البلدية فهو شخصية رجب طيب أردوغان الذى يتمتع بكاريزما هائلة وتتحقق فيه مقومات رجل الدولة فأردوغان خطيب مفوه متمرس فى العمل السياسى من خلال علاقته المبكرة بالراحل الكبير د./ نجم الدين أربكان ثم هو على دراية كاملة بالجهاز البيروقراطى للدولة من خلال سنوات طويلة قضاها كرئيس لبلدية اسطنبول .. ثم هو قريب من المواطن التركى ولعل نشأته الأسرية والسياسية قد لعبت دورا كبيرا فى توطيد علاقته بالمواطن التركى فقد نشأ فى أسرة فقيرة فى حى قاسم باشا وكان يبيع البطيخ والسميط من أجل مساعدة أسرته مما جعله يشعر بمعاناة الفقراء شعورا حقيقياً وليس زائفا كالذى نراه فى حكام كثر لدينا نشأوا فى مجتمعات مغلقة بعيدة عن عامة الشعب فظلوا بعيدين عنهم لا يقتربون منهم إلا لماما كما تعرض أردوغان للسجن بسبب أبيات شعر ألقاها مطلعها المساجد ثكناتنا والقباب خوذاتنا وهى لشاعر تركى شهير ( فى المؤتمر الانتخابى باسطنبول مؤخرا رددها أردوغان ورددها وراءه مئات الآلاف من الحاضرين فى رسالة واضحة بأن تركيا القديمة قد انتهت ) هذا السجن جعله يشعر بمعاناة المظلومين والمقهورين . أما داخل حلبة السياسة فهو شخص آخر تماما أشبه ما يكون بالملاكم الذى يظل يدور حول خصمه لينتهز اللحظة المناسبة ليوجه إليه ضرباته باقتدار .. وأزمة كثير من الإسلاميين فى مصر أنه دخلوا مضمار السياسة بقلب الداعية وعقلية الداعية وأدوات الداعية مما أدى إلى فشل كثير منهم فى ممارسة السياسة وإعلانهم عودتهم مرة أخرى لميدان الدعوة . أما ثالث هذه الأمور التى أدت إلى الفوز العريض والكبير لحزب العدالة والتنمية فهو عدم قدرة خصومه السياسيين على طرح برنامج تنموى حقيقى يحظى برضا الناخب التركى بل إن البعض منهم لم يجد ما يقدمه سوى أن يعد الناخبين بإيقاف المشروعات الكبرى التى وعد بها حزب العدالة والتنمية حال فوزه !! لذا رأينا هذه الأحزاب تتحد فيما بينها فى البلديات الكبرى من أجل مواجهة العدالة والتنمية كما حدث فى اسطنبول على سبيل المثال عندما اجتمعت أحزاب المعارضة الكبرى ( الشعب الجمهورى والحركة القومية ) على مرشح واحد وهو مصطفى صارى جول فى مواجهة مرشح العدالة والتنمية المهندس قدير طوباش والذى تمكن من حسم المعركة لصالحه . تجربة العدالة والتنمية تجربة ثرية ومفيدة للأحزاب الإسلامية لأنها تجربة تعتمد على لغة الأرقام وبيان الإنجازات وليس على روائع البيان ومحسنات الكلام فالشعوب تحتاج ممن يحكمها الطعام والشراب وتحسين ظروف معيشتها وليس الخطب وفقط .