انقسم العالم العربي هذه الأيام قسمة عميقة وجوهرية بين عالم ودول تتغير بثورة شعبية عارمة تطيح بأنظمة أسست للفساد والاستبداد والمتاجرة بقضايا الأمة، وبين عالم ودول عربية تمانع التغيير وترفضه وفاءً لإرثها الاستبدادي الفسادي القامع لشعبه والرافض لإصلاح أوضاعه فخاض واستعد لخوض معركة مع شعبه، فاستأجر المرتزقة وأطلق العنان لآلته الحربية التي جمعها من عرق جبين شعبه كما يجري في ليبيا، وهو ما عكس مدى أسطورة وأكذوبة قرب هذه الأنظمة الثورية من شعبها، ودحضها تماماً في كل من ليبيا وسورية وظهر أن هذه الأنظمة أشد فتكاً وأشد خراباً بالإنسان والأوطان من الأنظمة الموسومة بالاعتدال والممانعة. إن انتفاضة تونس لم تكلف ثوارها لإسقاط زين العابدين بن علي إلاّ ستين شهيداً رحمهم الله تعالى، بينما كلف رحيل الرئيس المصري حسني مبارك الذي يُنظر إليه على أنه أكبر دعامة للغرب والصهاينة في المنطقة العربية 300 شهيدٍ رحمهم الله، وحين وصل الأمر إلى اليمن فقد استأسد الرئيس اليمني على شعبه ولا يزال يفتك به صباح مساء ويسير المظاهرات والمسيرات المؤيدة له والتي أفرغت خزينة الدولة، إنفاقاً على إطعام المؤيدين له من المتظاهرين،أو صرف القات لهم، أو نقلهم وتجهيز صوره التي استعبدت الشعب اليمني لعقود في ظل حكمه. وحين وصل قطار التغيير إلى ملك ملوك أفريقيا كما أطلق على نفسه أعلن النفير العام وكأنه في معركة فاصلة، لكنه يخوضها مع شعبه المسكين الذي تحدى ولفظه، وحتى الآن لا يزال يصر ويكابر بأن شعبه يحبه، ولم يكفه من دليل أنه لم يجد ليبيا لينتدبه مندوباً له في الأممالمتحدة، واستأجر من قبله المرتزقة ليقاتلوا عن عرشه الذي اهتز بصيحات ثوار ليبيا الأبطال. الآن تصل موجة التغيير العربية الزاحفة إلى سورية فنجد الرئيس الشاب كعادته يقدم محاضرة في الفلسفة والسياسة والاقتصاد والاجتماع وكأنه يحاضر بشعب سويسرا وليس بشعب انتفض من أجل مطالب إصلاحية تعد أبسط من البسيطة في أي حكم أو دولة، ولكنه كعادة المستبدين كابر وعاند، وألقى باللائمة على المؤامرة ذاك العنقاء الذي طالما كان سيفاً مسلطاً على الشعب السوري. بالطبع لم يقدم لنا الرئيس الشاب أي أدلة أو عناصر للمؤامرة ودولها، وإنما كلاماً فضفاضاً، ولاك الكلام القديم الجديد من أنه يتعرض لمؤامرة لدعمه فلسطين وحركات المقاومة الإسلامية، وكأن دعم المقاومة لا يتم إلا على جراحات الشعب السوري وعذاباته، أو كأن تحرير الآخرين لا يتم إلا من خلال استعباد الشعب السوري وسجنه وتعذيبه، في حين يعلم الجميع أن آخر معركة خاضها الجيش السوري كانت في عام 1973، إلا إذا كان الرئيس الشاب سيظل يقاتل الصهاينة حتى آخر فلسطيني ولبناني .. وفي الوقت الذي يستعين القذافي بالمرتزقة الأفارقة للبقاء في السلطة لجأ الرئيس السوري إلى الارتزاق على قضايا جميلة يتعيش عليها هو ونظامه منذ عقود، فشرعية النظام السوري الورقة الفلسطينية. بيد أن خروج الشعب السوري هذه الأيام يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن كل تلك الأوراق لم تعد تعنيه شيئاً، وأن النظام انكشف وتعرى لهم تماماً، وأن الداخل غدا أهم من الخارج الذي يعتاش عليه النظام .. الأهم من ذلك أن على السياسيين وحركات التحرر أن تعي الدرس الأهم من هذه الثورة العربية الكبرى التي تخوضها الشعوب في كل مكان، وهو أن سحر هذه الحركات التحررية على مدى عقود كانت كلمة وعبارة " التحرر والاصطفاف مع الجماهير" وهو الذي دعم حركات التحرر في فلسطين وأفغانستان وغيرها، وحالما تصطف هذه الحركات مع القيادة العربية المتكلسة والمتحنطة بعبارات لا معنى لها" قيادة وشعباً" حينها تودع الشعب من هذه الحركات، فهي ليست دولاً لديها تملك المال والسلطان الذي يُرغب الشعوب أو يرهبها للوقوف إلى جانبها، وإنما سحرها في عدالة قضيتها وصفاء موقفها.. لم يعد العالم العربي كما هو قبل ثورة تونس ومصر وغيرها من الثورات العربية، ولم يعد الشارع العربي ينظر إلى هذا العالم العربي بتصنيفه القديم بين معسكر ممانع ومقاوم، وبين معسكر معتدل منبطح للأميركيين بعد أن انهار أولاً نظاما تونس ومصر المعتدلان والمواليان للأميركيين، ولم يعد بمقدور أحد أن يتحدث عن مصر إلا بإعجاب وباستلهام لنموذجها ودورها القيادي، ومع انهيار مصر مبارك لم يعد هناك معتدل عربي يتهم من قبل الممانعين بالولاء للأميركيين والصهاينة ضد قضايا الأمة، مما أنهى صيغة تقسيم العالم العربي بين ممانع مقاوم ومعتدل موال للأميركيين. العالم العربي اليوم مقسوم بين عالم عربي ثوري يطمح إلى الحكم الرشيد ومشاركة الشعوب في صوغ حاضره ومستقبله خطّته من قبل تونس ومصر، وبين عالم عربي يمانع لكن هذه المرة في إشراك الشعب بالقرار السياسي، ويمانع في القضاء على الفساد، ويمانع في التغيير نحو الأفضل، ويمانع في وضع الآليات للحكم الواضح والشفاف للدول من خلال آليات انتخابية ودستور يضع حداً لحزب قائد للدولة و المجتمع، ويمانع في إغلاق السجون والمعتقلات، ويُبَيِّض باستيلات العرب، ويمانع أيضا في القضاء على فزاعات طالما كانت سبباً ومبرراً لبقاء هذه الأنظمة في السلطة من قاعدة وعصابات مسلحة، ومخاطر وصول الإسلاميين للسلطة، وطائفية، وقبلية ونحوها.. فجاء انهيار النظام المصري وانكشاف تورطه في تفجير الكنيسة المصرية، واستخدامه ورقة الطائفية ليؤكد أن الأنظمة هي من خلق الفزاعات ومن روّجها للغرب على أنها حقائق، لكن انكشف السحر وتبين زيفه وبطلانه.