آخر تحديث.. سعر الجنيه الإسترليني مقابل الجنيه المصري اليوم الثلاثاء    ضياء رشوان: مصر ليست صانعة حروب لكنها قادرة على أي حرب    كاميرات المراقبة بمطار القاهرة تكذّب ادعاء راكب باستبدال أمواله بعملات محلية (فيديو)    أحمد الفيشاوي يشتبك مع المصورين في العرض الخاص لفيلم بنقدر ظروفك    برومو تاني تاني يحقق 6 ملايين مشاهدة قبل عرض الفيلم    أمين الفتوى: وجود الكلاب في المنازل لا يمنع دخول الملائكة    عار عليك.. متظاهرون يمنعون بلينكن من التحدث ويقاطعون كلمته 4 مرات متتالية    "مبقيش كتير".. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    أزهري: ليس من حق الآباء إجبار بناتهم على ارتداء الحجاب    امتدت لساعة.. قرارات مثيرة بعد جلسة الخطيب وجمال علام (تفاصيل)    المصري يفوز على النصر القاهري بهدفين لهدف وديا استعدادا لمودرن فيوتشر    خصومات تصل حتى 65% على المكيفات.. عروض خاصة نون السعودية    تكثيف المراجعات النهائية لطلاب الثانوية العامة بالفيوم.. «إحصاء وإنجليزي»    البحوث الفلكية: الأحد 16 يونيو أول أيام عيد الأضحى المبارك 2024    قرار جديد ضد سائق لاتهامه بالتحرش بطالب في أكتوبر    تكنولوجيا رجال الأعمال تبحث تنمية الصناعة لتحقيق مستهدف الناتج القومي 2030    الأعلى لشئون الإسلام وقيادات الإعلام يتوافقون على ضوابط تصوير الجنازات    «رفعت» و«الحصري».. تعرف على قراء التلاوات المجودة بإذاعة القرآن الكريم غدا    مدير مكتبة الإسكندرية: لقاؤنا مع الرئيس السيسي اهتم بمجريات قضية فلسطين    محمد عبد الحافظ ناصف نائبا للهيئة العامة لقصور الثقافة    رفقة سليمان عيد.. كريم محمود عبدالعزيز يشارك جمهوره كواليس «البيت بيتي 2»    حجازي: نتجه بقوة لتوظيف التكنولوجيا في التعليم    حزب الله يشدد على عدم التفاوض إلا بعد وقف العدوان على غزة    جلسة خاصة بين جوزيه جوميز وعبد الله السعيد استعدادًا لمباراة فيوتشر    أمين الفتوى بدار الإفتاء: سداد الدين مقدم على الأضحية    وكيل «صحة الشرقية» يتفقد سير العمل والخدمات الطبية بمستشفى الحسينية    هل وصل متحور كورونا الجديد FLiRT لمصر؟ المصل واللقاح تجيب (فيديو)    تأثير استخدام مكيفات الهواء على الصحة.. توازن بين الراحة والمخاطر    وزيرة الهجرة: نحرص على تعريف الراغبين في السفر بقوانين الدولة المغادر إليها    رئيس الوزراء يتابع موقف منظومة رد الأعباء التصديرية    عبارات تهنئة عيد الأضحى 2024.. خليك مميز    سامح شكرى لوزيرة خارجية هولندا: نرفض بشكل قاطع سياسات تهجير الفلسطينيين    عاجل| أسوشيتد برس تعلن تعليق إسرائيل خدمات الوكالة في غزة    جنايات المنصورة تحيل أوراق أب ونجليه للمفتى لقتلهم شخصا بسبب خلافات الجيرة    موقع إلكتروني ولجنة استشارية، البلشي يعلن عدة إجراءات تنظيمية لمؤتمر نقابة الصحفيين (صور)    لست وحدك يا موتا.. تقرير: يوفنتوس يستهدف التعاقد مع كالافيوري    "سيارة الغلابة".. انخفاض أسعار بي واي دي F3 حتى 80 ألف جنيه (صور)    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    لمواليد برج الثور.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    العثور على جثة طفل في ترعة بقنا    جيفرى هينتون: الذكاء الاصطناعى سيزيد ثروة الأغنياء فقط    «نجم البطولة».. إبراهيم سعيد يسخر من عبدالله السعيد بعد فوز الزمالك بالكونفدرالية    خليفة ميسي يقترب من الدوري السعودي    ب ممارسات حاطة بالكرامة والتقييد.. شهادات توثق تعذيب الاحتلال ل معتقلي غزة (تقرير)    محافظ أسيوط: مواصلة حملات نظافة وصيانة لكشافات الإنارة بحي شرق    برلمانية تطالب بوقف تراخيص تشغيل شركات النقل الذكي لحين التزامها بالضوابط    «بيطري المنيا»: تنفيذ 3 قوافل بيطرية مجانية بالقرى الأكثر احتياجًا    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    وزير الأوقاف: انضمام 12 قارئا لإذاعة القرآن لدعم الأصوات الشابة    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    في اليوم العالمي للشاي.. طريقة تحضير «بسكويت الماتشا» في المنزل    روسيا تفشل في إصدار قرار أممي لوقف سباق التسلح في الفضاء    «ختامها مسك».. طلاب الشهادة الإعدادية في البحيرة يؤدون امتحان اللغة الإنجليزية دون مشاكل أو تسريبات    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    مارك فوتا: الإسماعيلي تواصل معي لتولي الأكاديميات وتطوير الشباب    شبانة: مندهش من الأحداث التي صاحبت مراسم تتويج الزمالك    مندوب مصر بالأمم المتحدة لأعضاء مجلس الأمن: أوقفوا الحرب في غزة    استعدادات وترقب لقدوم عيد الأضحى المبارك 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة الاقتصاد المصري.. رؤية للعلاج
نشر في المصريون يوم 27 - 03 - 2011

تتمثل المشكلة الاقتصادية في أي مجتمع من المجتمعات في عدم القدرة على إشباع جميع الاحتياجات البشرية ، ويرجع هذا أساسا إلى الندرة النسبية للموارد الاقتصادية. فلو توافرت الموارد الاقتصادية دائما وبالقدر المطلوب لإشباع الاحتياجات البشرية إشباعا تاما لزالت المشكلة الاقتصادية تماما.
وتختلف النظرة للمشكلة الاقتصادية من وجود موارد محدودة نسبيا في مواجهة حاجات متعددة ومتزايدة وفقا للمذهب الاقتصادي السائد. فالنظام الرأسمالي ينظر للندرة النسبية في الموارد أو بما سماه "شح الطبيعة" على أنه جوهر المشكلة الاقتصادية ، وصور الإنسان على أنه في صراع مع الطبيعة من أجل البقاء. أما النظام الاشتراكي فقد اعتبر جوهر المشكلة الاقتصادية في التناقض بين شكل الإنتاج الجماعي وعلاقات التوزيع الفردية ، والمنهج الاقتصادي الإسلامي يرفض هذا التفسير وذاك ، فالموارد سخرها الله تعالى بقدر البشر كما وكيفا، وجعل الملكية الخاصة ملكية نظيفة وحقا مشروعا ينمو في حضن القيم الإيمانية ، والمشكلة الاقتصادية مرجعها إلى سلوك البشر وبعدهم عن تنفيذ أوامر الله ، وتجنب ما نهى عنه. فالله تعالى الذي خلق الموارد لكفاية البشر هو سبحانه من طلب من البشر السعي في الأرض والاستخدام الأمثل لهذه الموارد وتهذيب حاجتهم بالقيم الإسلامية، ومن ثم ذوبان ما يسمى بالمشكلة الاقتصادية.
والمشكلة الاقتصادية في مصر فاقت كل تصور فهي مشكلة لا ترجع إلى ندرة الموارد وإنما ترجع في حقيقتها إلى نهب الموارد نتيجة لحاجات منحرفة لفئة ضئيلة محدودة أبت إلا الجشع والطمع والتعدى على المال العام والسرقة والنهب المنظم من خلال زواج الثروة بالسلطة ، وتكوين جبال من المال الحرام بلا قيود والغنى الفاحش والتبذير والترف والسفه بلا حدود، في الوقت نفسه الذي لا يجد نحو نصف الشعب المصري قوت يومه ويعيشون في بحر من الحرمان والفقر والقهر على أقل من دولارين يوميا.
وقد فاحت رائحة الفساد في مصر حتى زكمت منه الأنوف وراجت سيرة المفسدين وما اقترفوه من سرقات علنية وخفية ، وأصبح الفساد سياسة مهيمنة منظمة ممنهجة حتى تحولت مصر من فساد في الإدارة إلى إدارة الفساد وكان في مقدمة المفسدين رئيس مصر الطاغية المخلوع حسنى مبارك الذي قدرت ثروته وأسرته ما بين 40 إلى 70 مليار دولار فضلا عن فساد أعوانه ومنتفعيه، من عز (50 مليار جنيه) ، المغربى (10 مليار جنيه) ، جرانة ( 13 مليار جنيه) ، ورشيد (12 مليار جنيه) ، والعادلي (8 مليار جنيه) ، وغيرهم الكثير والكثير.
لقد عشش الفساد وفرخ مزيدا من الفساد بفعل المفسدين الذين لم يعرفوا للعفة سبيلا، وأصبح ما جنوه من فساد يصعب على العقل إدراكه رغم كونه واقع تؤكده المستندات والتحقيقات وكشفت عنه الأجهزة الرقابية في الدولة. فاستولوا على آلاف الأفدنة من الأراضي خلال قرارات تخصيص بأسعار لا تكاد تذكر عن السعر الأصلي وباعوها بأسعار خيالية ، وكذلك فعلوا في القصور والمنتجعات السياحية ، ولم يكتف أحدهم بمكان واحد بل تعدد أماكنه وتكاثرت مطامعه لتمتد من مصر شرقا وغربا ، شمالا وجنوبا ، يابسة بحرا ونهرا، حتى قدر حجم إهدار المال في مجال بيع أراضي الدولة فقط أكثر من تريليون جنيه، وعلى سبيل المثال عقد بيع أرض مدينتي ترتبت عليه خسارة تقدر بنحو 147 مليار جنيه، وقس على ذلك صفقات الخصخصة التي بيعت بأسعار زهيدة مقابل سمسرة وعمولات مجهولة ومعلومة حتى أن شركة عمر افندي التي كانت قيمتها السوقية 5 مليارات جنيه تم بيعها ب650 مليون جنيه أي أقل من 15% من ثمنها. وشركة أسمنت أسيوط بيعت لنجيب ساويرس بمبلغ 2.2 مليار جنيه ثم قام ببيعها إلى شركة لافارج الفرنسية بعد ستة أشهر بمبلغ 78 مليار جنيه، أي أنه ربح 76 مليار جنيه في ستة أشهر. وصفقة شركة إيديال التي بيعت ب325 مليون جنيه في حين كانت تبلغ قيمتها السوقية 5 مليارات جنيه، فضلا عن العديد من الصفقات على هذه الشاكلة مثل المراجل البخارية ، والحديد والصلب ، وصفقة بيع الغاز للكيان الصهيوني على يد حسين سالم (صديق الرئيس المخلوع) التي كبدت مصر خسائر سنوية تقدر بأكثر من 10 مليار دولار، وغيرها الكثير والكثير. وقد وصل عدد قضايا الفساد على صعيد الجهاز الإداري للدولة ( الذي يضم نحو 6.1 ملايين فرد) 70 ألف قضية سنويا، يحفظ منها 40 ألف قضية، ويُحكم في أقل من ألفين قضية. ووفق بيانات منظمة الشفافية الدولية فإنه على مدار الفترة ما بين عامي 2000 و2008 استطاع لوبي الفساد أن يهرب 57.2 مليار دولار من الأموال غير المشروعة خارج مصر من جراء الجريمة والفساد والتهرب الضريبي الذي حظى كبار اللصوص بالجزء الأكبر منه ، أي بنحو 6.4 سنويا.
وقد كان نتيجة طبيعية لهذا الفساد المنظم أن أصبحت التنمية الاقتصادية معضلة والتنمية الاجتماعية مفقودة وكادت الطبقة الوسطى أن تزول وإن شئت قلت أصبحت هناك طبقتين طبقة عائمة يمثلها في عمومها لصوص السياسة والمال وطبقة غارقة تعيش عيشة الكادحين .. تقضي يومها بما قسمه له ربها، وتطلب الستر من خالقها في يومها وغدها وتشتكى إلى الله من ظلم وطغيان وقهر وانحراف المفسدين لها، وفي مقدمتهم مبارك وجنده من حكومة رجال الأعمال الذين وضعوا مؤشرات للنمو خيالية ولا ترتبط بواقع ُيعاش إلا واقعهم الملوث، حتى كشف الله فضائحهم وتضخيم كروشهم بالحرام ، وسعيهم لتدمير اقتصاد مصر على أيديهم ، فقد بلغ عجز الموازنة العامة نحو 9% بقيمة 191 مليار جنيه، وتجاوز الدين العام المصري "الحدود الآمنة"، فقد بلغ 1.08 تريليون جنيه مصري في نهاية العام المالي الماضي المنتهي في 30 يونيو/ 2010 (بما يشكل 89.5% من الناتج المحلي الإجمالي). إضافة إلى أن الديون المحلية التي تبلغ 888 مليار جنيه (أي ما يعادل 73.6% من الناتج المحلي الإجمالي). ناهيك عما تتكبده الموازنة العامة للدولة من أقساط وفوائد تقدر نحو 173 مليار (بما يمثل نسبة 43.6% من الإنفاق العام). وهو مبلغ من الضخامة بمكان حيث يبلغ ما يقارب ضعف مخصصات الأجور التي تقترب من تسعين مليار جنيه. كما أن الميزان التجاري لمصر لم يعرف سوى العجز على مدار العقود الثلاثة الماضية، وعادة ما كانت الصادرات لا تشكل سوى 50% من الواردات. ففي العام 2009/2010 بلغت الصادرات 23.9 مليار دولار، بينما بلغت الواردات 49 مليار دولار. ولم يجد المواطن في النهاية سوى لباس الفقر والبطالة والغلاء والجوع والخوف حتى وصل معدل البطالة لنحو 15%، وارتفع معدل التضخم لنحو 18%.
وإزاء كل هذا الفساد ، وتردى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ، وقيام الثورة المباركة ، يتساءل المرء هل من مخرج من هذا الوضع الراهن خاصة بعد تكبد الاقتصاد خسائر إضافية تقدر بنحو مليار وسبعمائة مليون دولار من جراء الثورة؟ .. والواقع والمنطق يعكس أن هذا المبلغ المفقود لا يمثل سوى جزء ضئيل مما عانت منه مصر في المرحلة السابقة وتكاليف الثورات الاقتصادية لا تقاس أمام منافعها الحقيقية الآنية والمستقبلية فالتغيير الذي أحدثته ثورة 25 يناير سيعزز وضع الاقتصاد المصري على المدى الطويل لا محالة ، وإن كان هذا يتطلب وضع رؤية تنظيرية اقتصادية عملية إصلاحية تنظر للوضع الراهن بقدر نظرتها للمستقبل القريب والبعيد.
وُينظر للنظرية الاقتصادية في علم الاقتصاد على أنها ُتمثل الأداة أو الوسيلة التي يستعين بها المحلل الاقتصادي في إجراء تحليله للظواهر التي يدرسها وتفسيرها، ولها مفهومان : مفهوم واقعي من خلاله تمثل نظرية علمية يتحدد إطارها بملاحظة الواقع وتفسيره . والمفهوم الثاني هو المفهوم المثالي وهو مفهوم لا يعني انفصال النظرية الاقتصادية عن الواقع تماما. ولكن المقصود بالمفهوم المثالي : هو ارتباط النظرية ببعض الأهداف المرغوبة والتي يظن صاحب النظرية انه ينبغي تحقيقها في الواقع، وهذا المفهوم هو ما يتفق مع المنهج الاقتصادي الإسلامي بمثاليته القابلة للتطبيق من خلال الجمع بين فقه النص وواقع العصر ، لتحقيق العدل وحد الكفاية على الأقل (لا الكفاف) للمواطنين، وهو يملك من الوسائل المتعددة والمتكاملة ما يحقق هذا الهدف المنشود الذي قامت الثورة من أجله ، وقد كان رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف محقا حينما قال إن سياسة حكومته الاقتصادية تقوم على السوق الحر والعدالة الاجتماعية ، وهذا ترجمة فعلية لنظام الاقتصادي الإسلامي الذي قوامه أسس ثلاث : الملكية المزدوجة (العامة والخاصة) ، والحرية الاقتصادية المنضبطة (دون غش أو تدليس أو احتكار أو غرر، أو ربا ، أو مقامرة، أو أكل المال بالباطل) ، والتكافل الاجتماعي.
وإذا كانت الثورة المصرية تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والحياة الكريمة لأبناء مصر فهذا هدف مثالي إسلامي ، وهو ليس أمرا مستحدثا ولا صعب التحقق ، فقد تحقق بصورة واقعية في الماضي القريب والبعيد ، ففي الماضي البعيد تمكن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز من تحقيق تلك العدالة من خلال محاربة الفساد وأهله ، فلا يمكن لأي اقتصاد أن يبنى والفساد يترعرع فيه ، فهما نقيضان لا يجتمعان ، فالفساد يمثل نزيفا للاقتصاد وأولى البديهيات أن نوقف النزيف كأول خطوة لمعالجة المريض ، وقد كان أول أولويات الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز حينما تولى الخلافة محاربة فساد بني أمية ورد المظالم إلى أهلها وبدأ بزوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان التي تركت ما تملك لبيت مال المسلمين طاعة لربها وتقديرا لرسالة زوجها، وسار على هذا المنهج مع كل من استولى ولو على درهما واحدا من المال العام ، فخنق الفساد خنقا وأعاد لبيت المال الأموال المنهوبة ليضمها إلى موارد الدولة من الزكاة وغيرها من الموارد الأخرى فكان من نتيجة ذلك أن فاضت خزائنه وعدمت دولته أن تجد فيها فقيرا أو مسكينا ووصل به الحال أن زوج الشباب من بيت المال وأعتق العبيد والإماء ووفر لمن لا يجد مركبا ما يعينه على ذلك، حتى بات في عصره الذئب حارسا للغنم فلما سأل عن ذلك قال : أصلحت ما بيني وبين ربي فأصلح الله ما بين الذئب والغنم ، وهو بذلك ورث العفة من جده عمر بن الخطاب –رضى الله عنه- فحينما انتصر المسلمون وأتوا بتاج كسري‏ إلي عمر رضي الله عنه قال‏:‏ ان الذين أدوا هذا لأمناء‏. فقال له على –رضى الله عنه- قولته المشهورة : "إن القوم رأوك عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا".
وفي الماضي القريب تجربة حزب العدالة والتنمية (ذات المرجعية الإسلامية) الذي يتولى مقاليد الحكم في تركيا منذ العام 2002 ، فقد كشف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أوردغان عن أسباب النهضة في تركيا المعاصرة في كفاحات ثلاث : كفاح الفساد، وكفاح المحرمات ، وكفاح الفقر، ففي كفاحه ضد الفساد حقق نجاحا منقطع النظير ضد مافيا الفساد وأرجع لميزانية الدولة عشرات المليارات ، وفي كفاحه ضد المحرمات وقف بشدة ضد تحريم الإيمان وتحريم المعتقدات وتحريم الحجاب الذي كان ضربا من الخيال في تركيا منذ عهد أتاتورك كما كافح الفوائد ولم يذعن لشروط صندوق النقد الدولي بذات الخصوص، وفي كفاحه ضد الفقر جعله عدوه اللدود حتى وصل به إلى درجات منخفضة ويسعي إلى المزيد من الانخفاض.
وكان من نتيجة هذا الكفاح المشرف أن انتقلت تركيا من دولة يموج بها الفساد من كل جانب ويلتهب شعبها بنار التضخم إلى دولة يتربع اقتصادها ليكون سادس أقوى اقتصاد في أوروبا والسابع عشر على مستوى العالم وتتجو من ويلات الأزمة المالية العالمية بسلام. ومن خلال إلقاء نظرة على بعض الأرقام الاقتصادية المقارنة بين العام 2002 ووقتنا الحالي نجد أن حجم التجارة في تركيا كان 250 مليارا دولار وقد وصل الآن إلى أكثر من 840 مليار ، كما كانت فوائد استدانة الدولة 64% أما الآن فقد بلغت أقل من 7% ، وكان التضخم 30% والآن أصبح 6,4%، وكان الدين الكلي 64% من الميزانية العامة أما الآن الدين الكلي للدخل القومي بلغ أقل من 30% ، كما زاد تمويل المزارعين والمهنيين بنسبة عشرة أضعاف وزاد المستفيدين منه. وانتقل الدخل القومي للفرد من 2300 دولار ليصل الآن إلى 11 ألف دولار متضاعفا أكثر من أربعة مرات، وفي الوقت نفسه يتوقع أن يصل الدخل القومي للفرد في العام 2023 إلى 25 ألف دولار ، وأن يصل حجم التجارة الخارجية إلى واحد تريليون دولار.
إن مصر في أشد الحاجة للاستفادة من التجربة التركية ، وإن كانت مصر تفوقها بمواردها المتنوعة التي حباها الله بها وقلما تجدها في بلد غيرها، وأصبحت الآن فرصتنا الحقيقية أكبر للخروج من عنق الزجاحة الذي طالما تغنى به الكثيرون من حكامنا من قبل وأوصلونا إلى درك الزجاجة ومستنقع من الفساد لانظير له، فقد بدأنا سعينا للنهضة قبل تركيا حينما بدأت اليابان تجربتها فتقدمت اليابان وتخلفنا ، ثم جاءت تجربة كوريا فتقدمت ونحن محلك سر ، ثم جاءت تجربة ماليزيا التي بدأت بعد أن تولى مبارك الحكم بنحو عام فتقدمت بمحاضير وجنوده المخلصين وتخلفنا نحن بفعل مبارك ولصوصه المعروفين.
إن منابع النمو والتقدم في مصر لا تخفي على كل لبيب فاهم ، ومن قبل نجح نبي الله يوسف عليه السلام في إخراج مصر من أزمتها بخطة امتدت لخمسة عشر عاما كان أساسها الإنسان وشملت الإنتاج والادخار والاستهلاك والتوزيع كما حكى ذلك القرآن الكريم، وهذا يعكس قيمة المورد البشري كأساس لتحقيق التنمية شريطة أن يتوافر فيه الإخلاص والأمانة والحفظ والفهم لطبيعة المهام الموكلة إليه ، مع أهمية ترسيخ الشفافية وسيادة القانون ، وهذا هو من أهم ما تتطلبه تلك المرحلة كأساس ُيبنى عليه الاقتصاد المصري.
إن مصر بحاجة على الفور إلى إجراءات إصلاحية يأتي في مقدمتها محاربة الفساد من خلال تكوين لجان قضائية للتحقيق تتناسب مع قضايا الفساد المتكاثرة بصورة لا تحتمل البطء في الإجراءات ، ومن ثم إتخاذ الإجراءات اللازمة قضائيا لمحاسبة المفسدين وإرجاع الأموال المنهوبة داخليا وخارجيا ، بما في ذلك الفساد الذي تم في عقود بيع شركات القطاع العام. مع توحيد الجهات الرقابية الحكومية في جهة واحدة تكون مسئولة مسئولية كاملة عن الكشف عن الفساد وما يستجد منه واتخاذ الإجراءات القضائية اللازمة بشأنه.
كما تبدو أهمية الرشادة في السياسة النقدية والمالية، بأن يكونا في خدمة الاقتصاد الحقيقي، فالسياسة النقدية ينبغي أن تخرج من عباءة ترسيخ المديونيات إلى رحاب خدمة الإنتاج والاستثمار، فالسياسة النقدية الحالية جعلت البنوك تتكالب لإقراض البنك المركزي تجنبا لمخاطر توظيف الأموال لدى الأفراد أو المؤسسات ، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى التآكل الرأسمالي في المجتمع، فقد كان من نتيجة هذه السياسة الخاطئة أن تراكمت الأموال في البنوك حتى عجز الجهاز المصرفي المصري عن توظيف ما يقرب من نصف ودائعه التي بلغت أكثر من تسعمائة مليار جنيه. كما ينبغي التخطيط لإحلال آلية معدل الربح بديلا عن سعر الفائدة ، واستخدام آليات أكثر جدوى في تشجيع الإدخار والتحكم في عرض النقود ومعالجة التضخم يأتي في مقدمتها استخدام الصكوك الإسلامية بصورة تدعم الاقتصاد الحقيقي، إضافة إلى مراعاة التوازن في سعر الصرف وتخفيف الضغوط عليه من خلال قيام البنك المركزي في الظروف الراهنة بدور صانع السوق في سوق النقد مع إمكانية وضع قيود مؤقتة على التحويلات للخارج واتخاذ الرقابة اللازمة لذلك.
كما أن السياسة المالية ينبغي أن تقوم على ترشيد الإنفاق الحكومي مع الإصلاح الضريبي ، من خلال الوقوف بحزم ضد السفه الإنفاقي الحكومي الذي بلغ حدا لا يطاق في عهد المفسدين سواء من مرتبات خيالية لمستشارين في غالبيتهم وجودهم مثل عدمهم ، وتفاوت في الأجور غير معقول ولا مقبول، أو صناديق مالية محلية ينفق منها بلا رقيب، أو نفقات صحية وترفيهية وديكورية على المحاسيب ، أو أتاوات لمسئولين ، أو نفقات للرئاسة دون رقيب وغير ذلك. مع الخروج من النفق المظلم للاقتراض الذي يأكل إيرادات الدولة أكلا ، وعدم إيلاء أهمية للمعونات الخارجية التي في حقيقتها تمثل عبئا بشروطها المجحفة. وكذلك ترشيد الدعم بإيصاله إلى مستحقيه الحقيقيين ، وربط الدعم المقدم للقطاعات الاقتصادية بتوفير فرص العمل وحماية حقوق العمال، وتحقيق أولويات خطة التنمية فقد بلغ دعم الصادرات 4 مليار جنيه سنويًا، وبلغ دعم الطاقة الذي يصب في مصلحة الأغنياء نسبة كبيرة تقدر بنحو 67 مليار جنيه وهو أمر مثير للدهشة.
وكذلك إنهاء مرحلة الجباية وسرقة أموال الضعفاء لصالح الأغنياء التي رسخها يوسف بطرس غالي والاعتماد على الضرائب التصاعدية ذات الشرائح العادلة المعتدلة التي لها القدرة على توسيع الحصيلة ، وإلغاء ما سمى الضريبة العقارية فمن أولى حقوق المواطن توفير مسكن له لا فرض ضرائب عليه، مع تطبيق شرائح ضريبية على التعامل في بورصة الأوراق المالية تبدأ من الإعفاء وتتصاعد تدريجيا كلما انخفضت مدة الاحتفاظ بالأوراق المالية المشتراة بما يقيد عملية المضاربات والأموال الأجنبية الساخنة التي تضر ولا تنفع، مع إعطاء الأهمية للسوق الأولي، بإنشاء شركات جديدة أو زيادة رأس مال شركات قائمة وإقامة صناديق استثمار مباشر تتجه بأموالها نحو الاستثمار الحقيقي لا المالي حيث لا يترتب على الاستثمار المالي أي قيمة مضافة ، ومنع الشراء بالهامش والبعد كل البعد عن البيع على المكشوف والمشتقات المالية التي تمثل أدوات دمار شامل للأسواق المالية، وكذلك العمل على سن تشريع ينظم تحصيل الزكاة وإنفاقها من خلال هيئة مستقلة عن الحكومة تنظيميا وإداريا.
إن الناظر إلى السياسة الضريبية المصرية يجد تشوها واضحا في تلك السياسة يعكس غياب العدالة حتى أن الإيرادات الضريبية يسهم فيها القطاع الخاص بنسبة محدودة ، فعائدات الضرائب تشكل نحو 60% من إجمالي الإيرادات الحكومية ، يدفع منها الموظفون نحو 9.5 مليارات دولار، والنشاط التجاري والصناعي قرابة 4.5 مليارات. وفيما يتعلق بضرائب شركات الأموال التي تقدر ب62 مليار دولار، فإن هيئتي قناة السويس والبترول تدفعان نحو 39.9 مليارا منها، والباقي وهو 22 مليارا موزع بين شركات الأموال للقطاعين العام والخاص، أما الضرائب غير المباشرة، التي من أبرز صورها الضريبة العامة على المبيعات فقد بلغت نحو 28.7 مليار جنيه، بعد أن كانت في منتصف التسعينات نحو أربعة مليارات جنيه فقط لاغير.
كما تبدو أهمية وضع خطة ولتكن سباعية من خلالها يتم الإهتمام بتوجيه جزء أكبر من الموازنة العامة للدولة نحو الاستثمار في التعليم والبحث العلمي والصحة بما يخدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مع إعادة النظر في المخصصات التي كانت تنفق على الأمن بغرض تأمين النظام الفاسد، وأن تقتصر على تحقيق الأمن النفسي والمادي للمواطنين، وفتح المجال للقطاع الخاص وفقا لتوجيهات الدولة ورقابتها لاتخاذ دوره الأساسي في تحقيق تغير هيكلي في النشاط الاقتصادي يؤدي إلى زيادة نمو الناتج القومي الحقيقي وتنويعه وفقا لأولويات المجتمع من ضروريات فحاجيات فكماليات ، مع أهمية استخدام أسلوب الدولة للحافز القومي والإسلامي لتوجيه رجال الأعمال بإنتاج تلك الأولويات بما يجمع بين ربحي الدنيا والآخرة.
إن التغيير الهيكلي للنشاط الاقتصادي هو أمر متاح وميسر خاصة في ظل ما قدمه الدكتور فاروق الباز من مشروع ممر التنمية الذي قد يكون خطوة طيبة نحو الخروج من معرة الدول المتخلفة ، فهيكل النشاط الاقتصادي المصري يعاني من تشوه واضح يعكسه توزيع النشاط الاقتصادي بين القطاعات الرئيسة ، الصناعة والزراعة والخدمات. فقطاع الخدمات هو صاحب النصيب الأكبر من حيث مساهمته في الناتج المحلي لاستحواذه على ما يزيد عن 50%، وهو ما همش من مساهمة قطاعي الصناعة والزراعة وهما القطاعان اللذان يتيحان فرص عمل حقيقية ودائمة ويشكلان قدرا مهما من القيمة المضافة. وميزان المدفوعات لا يجبره إلا الإيرادات الريعية المتمثلة في البترول، الذي يمثل 50% من الصادرات المصرية، ويحقق نحو عشرة مليارات دولار سنويا، والسياحة التي تحقق نحو ثمانية مليارات دولار، وعوائد العاملين بالخارج التي تقدر بنحو 6.3 مليارات دولار، وقناة السويس التي تقترب إيراداتها من 4.8 مليارات دولار. وقد كان ذلك نتيجة طبيعية لسلوك رجال الأعمال المنتفعين الذين حصلوا على كافة المزايا من ضرائب وجمارك وأسعار شديدة الانخفاض لأراضي ومرافق الدولة، واتجهوا لقطاع الخدمات وأهملوا قطاعى الصناعة والزراعة.
ومن هنا تبدو أهمية الاستفادة مما حباه الله بمصر من موارد وحسن استخدامها باعتبارها أمانة يجب أن ترعى ونعمة يجب أن تشكر، مع النظر للقوة السكانية في مصر باعتبارها مصدر قوة لا كعبء كما كان ينظر النظام المخلوع ، والخروج من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الحقيقي بالتركيز على قطاع الصناعة وتحقيق التوازن بينه وبين القطاعات الأخرى وفي مقدمتها قطاع الزراعة مع التركيز على الزراعات الاستراتيجية وفي مقدمتها القمح ، وإيلاء أهمية لتوجيه الشباب نحو الاستصلاح الزراعي من خلال إعادة الأرض المنهوبة بعد اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة وتوزيعها عليهم فضلا عن توزيع أراضي جديدة عليهم.
كما يمكن الاستفادة من العمالة المدربة وتأهيل العمالة غير المدربة وتيسير سبل العمل لهم من خلال إقامة شبكة معلومات عن الاحتياجات العمالية بالتنسيق بين الحكومة والقطاع الخاص والقطاع الثالث الأهلى التطوعي، ويمكن في هذا الإطار تفعيل دور مؤسسة الوقف ومؤسسة الزكاة (بعد إنشاء قانون لكل منهما ينظم عملهما) فضلا عن المؤسسات المالية لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة بوسائل التمويل الإسلامية المتعددة والمتنوعة مع المتابعة اللازمة لذلك وهو ما يسهم في علاج مشكلة البطالة ويدفع بعجلة الإنتاج، خاصة وأن صانع السياسة الاقتصادية مطالب بما بين سبعمائة ألف و750 ألف وظيفة سنويا.
كما يمكن تيسير سبل الاستثمار الأجنبي المباشر (الذي بلغت فيمته حاليا نحو 6.7 مليارات دولار) وفق شروط وطنية لا تفرط في مواردنا أو سيادتنا حسب احتياجات التنمية، وأن ُتعطى من المزايا بقدر مساهمتها في جلب التكنولوجيا والصادرات وإتاحة فرص العمل، وعدم مزاحمة الصناعة الوطنية بدلا من تركيز الاستثمار الأجنبي المباشرعلى قطاع البترول والاستحواذ على الشركات الوطنية، والنشاط العقاري والسياحي، مع إيلاء أهمية للاستثمار المباشر العربي والإسلامي.
إن الاقتصاد المصري قادر في المرحلة القادمة –بإذن الله تعالى- على النمو الحقيقي بإرادة وإيمان أبنائه وروح ثورة 25 يناير بما ينهي المطالب الفئوية ويحقق الحياة الطيبة الكريمة التي لا تقبل سوى بحد أدنى هو الكفاية سبيلا .. حياة تسمو بالروح والجسد، ويسودها روح الإخاء والتكافل والمودة والرحمة، وترفرف عليها مظلة الأمن والعدل، وتخلو من شبح الجوع والخوف والكراهية والبغضاء والأثرة، وُتراعي العدالة الاجتماعية في توزيع الدخول والثروة حتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم .. حياة تخرج المصريين من نفق التبعية لغيرهم، وتحقق الاستقلال الاقتصادي لهم وتمهد الطريق لإقامة وحدة اقتصادية عربية وإسلامية شاملة.
www.drdawaba.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.