كنت أستعد لمغادرة عملي عندما فوجئت بزميلي الموظف البسيط يضع سماعتي الأذن ويحملق في شاشة الحاسوب , فقلت له مداعبة : ليس هذا وقت الاستماع للأغاني , بلادنا في ثورة تحتاج إلي العمل والجد ,فنفي عن نفسه تهمة الانفصام عن الثورة, قائلا :إنه يشاهد فيلما عن اغتيال الرئيس السادات , وأنه علم من الفيلم أن عبود الزمر سيقيم دولة شيعية في مصر وسيأمر كل المصريين بارتداء الجلباب القصير .أذهلتني المفاجأة وألجمتني الدهشة . ثم تمالكت نفسي فقت له: وهل كل ما يقوله الآخرون قابل للتصديق؟ أبحث بنفسك عن الحقيقة , ويبدو أنه أراد التخلص من جدالي فقال أنه سيفعل , نزلت من العمل لأجد السائق الشاب الذي يردد دائما كلمات فلول الحزب الوطني وبقاياه باعتبارها مسلمات في حياة أمتنا, وإن كان في كثير من الأحيان يطالع الجرائد اليومية بنهم , وجدته يقول لي الفوضي تسود البلاد , لقد أخرجوا عبود الزمر من السجن , قلت وماذا في ذلك إن كان قد قضي مدة عقوبته , بل زاد عليها عشر سنوات .قال إنه يريد أن يؤسس حزبا وأن يجعل المصريين يرتدون الجلباب القصير , اندهشت من ترديده لنفس الكلمات التي قالها الساعي منذ قليل ,فقلت مازحة لكني رأيته في التلفاز يرتدي جاكتا وبنطلونا , قال: نعم, لكنه بنطلونا قصيرا . اندهشت للمرة الثانية وذهبت الظنون بعقلي كل مذهب . ثم قررت أن أنسي الأمر كله , فمن الطبيعي في هذه الفترة الانتقالية التي تمر بها بلادنا بين عهدين مختلفين كل الاختلاف أن تنتشر الهواجس والمخاوف بل والإشاعات . مرت ساعة وفوجئت بابنتي الكبرى ذات الأثنتي عشرة سنة تدق جرس الباب ففتحته لها ,فوجدتها تضع حقيبتها علي عجل لتقول لي : ماما , ماذا حدث للناس , ألا يعملون عقولهم؟ , ألا يفكرون ؟, قلت ماذا حدث , قالت دار حوار في حافلة المدرسة بيني وبين زميل لي يعمل أبوه ضابطا وزميلة تصغرنا بعام ,ومدرسة الموسيقي, وفتحت المعلمة الحوار قائلة إن نتيجة الاستفتاء لابد مزورة , أما حجتها في ذلك فهي أنها صوتت هي وجميع أصدقائها بلا ثم جاءت نتيجة الاستفتاء بنعم , فأجابتها ابنتي بعفوية هذا لأن أسرتي وجميع معارفنا صوتوا بنعم . قالت المعلمة كيف يصوتون بنعم مثل الأخوان ,ألا تعرفين أن الإخوان يخططون مع الولاياتالمتحدة لإجهاض الثورة , وهم كثرة لا يستهان بها ؟ فاندفع زميل ابنتي قائلا : لا يا مس أنهم قلة ,قالت ابنتي كيف ذلك وهما علي طرفي نقيض ؟ فردت زميلتها الأخرى : أنهم يخططون لإزالة المادة الثانية من الدستور .وهنا ضحكت ابنتي قائلة حيرتموني , هل أقنعوا الناس بالتصويت بنعم من أجل المادة الثانية من الدستور , أم أنهم أقنعوهم بنعم ليزيلوها من الدستور , هل هم كثرة أم قلة؟ . هل هم مع أمريكا أم أنهم صوتوا بنعم ضد أمريكا التي وعدت بزيادة المعونة لو جاءت نتيجة الاستفتاء برفض التعديلات ؟ أزعجتني حيرة ابنتي لكني قلت لها دعكي مما يقولون , واصلي قراءاتك وأعملي عقلك واستفتي قلبك . اندهشت لأن هذا الأسلوب الذي يتعمد تصدير فكرة الخوف لتصد الناس عن مناقشة الفكر هو أحد الأدوات التي تمارسها جهة معروفة , تحاول دوما الربط بين سمت الإرهابي كما يظهر في الأفلام السينمائية وبين بعض المسلمين الذين تخشي أن يناقشهم الناس في أفكارهم فيظهر لهم أنهم ليسوا وحوشا وإنما بشر يقبلون الاختلاف والاتفاق معهم . تذكرت أيضا تلك الخلطة العجيبة التي كال فيها النظام السابق للثائرين ضده اتهامات بالعمالة "لإيران وإسرائيل وحماس وحزب الله والولاياتالمتحدة " وكأنه يجب علي كل منا أن ينتقي التوجه الذي يخاف منه ليلصقه بالصامدين في الميدان فينبذهم . لكني حرصت ألا تذهب بي الظنون كل مذهب فانصرفت لبعض شأني . فتحت التلفاز فوجدتني وكل من صوت بنعم متهمين في عقلنا وانتمائنا , ومغرر بنا , وسماعون للكذب وآكلون للسحت وسماعون لقوم آخرين , ولا نسكن الأحياء الراقية ونعيش في القري المعزولة والعشوائيات , وننتمي لجماعة الأخوان المسلمين وللسلفيين في الوقت ذاته , وتقودنا نزعتنا الطائفية, وغير مؤهلين لقطف ثمار الديمقراطية , ورجعيين و ظلاميين . وذهبنا للاستفتاء بعد أن تسلمنا الزيت والسكر الذي وزعته علينا جماعة الأخوان المسلمين . يا الله , كل هذا السباب لأننا تجرأنا واختلفنا عنكم . كل هذا القيح والصديد لأننا لم نقبل وصايتكم علينا , ولا وصاية غيركم . أذكركم أيها الأوصياء التنويريون من العقلاء الواعين أنه في بداية أحداث الثورة أعلنت المؤسسة الدينية الرسمية ممثلة في الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية رفضها للتظاهرات , وكان بعض المشايخ من التيار السلفي مشتركا معها في هذا الطرح . فماذا حدث ؟ لم تقبل الحشود المسلمة وجهة النظر هذه , و نزلت إلي ميدان التحرير وإلي كل ميدان في مصر . معلنة أنها استفتت قلبها وإن أفتوها , وأنه لا وصاية لأحد علي فكرها , بل إن التيار السلفي هو الذي نزل علي رغبتها حينما رأي أنها كانت علي صواب ولم يكابر كبعض من يعضون علي رأيهم بالنواجذ هذه الأيام وأن تبين ابتعاده عن الصواب , ونزل أيضا إلي الميادين عدد ليس بالقليل من المشايخ الذين ينتمون لهذه المؤسسة , وكان منظرهم وهم يرتدون زيهم الأزهري ويمسكون بأيدي بعضهم البعض ويقدمهم الناس للهتاف وللمواجهة خير دليل علي وعي الشعب , الذي لا يملي عليه كهنوت أفكاره . قد تقولون أن بعض المسلمين لا يثقون في المؤسسات الدينية الرسمية , وهذه حجة لنا لا علينا , فلما يثق المسلم بهذا ويرفض فكر ذاك ألا لأنه يملك رؤيته الخاصة ولا يسمح لأحد بالتأثير علي تفكيره , ولا يسير وفقا لنظرية القطيع التي يتبعها البعض دون وعي. .الرؤية يا سادة هتي التي خلقت الرضا عن أفكار هذا والرفض لأفكار ذاك . ثانيا : أنت تقولون أن فريق نعم حشد الدعاة ليدعوا المسلمين للتصويت بقبول التعديلات . ألم تقوموا أنتم بالفعلة ذاتها , وقمتم بنشر إعلان جمعتم فيه ضمن من جمعتم - علي اختلاف مشاربهم - بعضا من الدعاة الجماهيريين في أوساط الشباب كالأستاذ عمرو خالد والأستاذ معز مسعود ,, ألم تسألوا أنفسكم لما إذن صوتت الأغلبية بنعم رغم وجود دعاة مسلمين يدعون إلي التصويت بلا ؟ قد تقولون أن الرجلين لا يتمتعان بالشعبية ذاتها التي يتمتع بها الدعاة الآخرون . أذن أنتم تعترفون أن الأمر لا يعود لسلطان الدين فقط والحق الآلهي , بل إلي من يستطيع أن يقنع بالفكر , وإلي إعمال العقل, وهو ما يترجم في القبول من هذا والرفض من ذاك ؟ الأخوان في الأخوان المسلمين , أنا في انتظار زجاجتين من الزيت وكيسين من الأرز لم يصلا حتي الآن رغم أني قمت بالتصويت بنعم . ولا أدري هل نفد رصيدكم علي حظي أنا .. عموما الاستفتاءات والانتخابات القادمة كثيرة , لكني انتظر في المرة القادمة وجبات الكنتاكي التي كنتم تتناولونها في ميدان التحرير مع الرفاق من فريق رفض التعديلات أثناء أحداث الثورة التي تناساها البعض . • صحفية بالأهرام