خلال الأسابيع القليلة الماضية وعبر اتصالات هاتفية ولقاءات مباشرة وسجالات على مواقع التواصل كنتُ على موعد متكرر مع شباب مخلص في حب دينه وأمته ولكنه يسلك الطريق الخاطئ، طريق الغلو والتطرف والخوارج، بتأييد داعش والقاعدة. وبرغم تعدد مستويات وخلفيات وانتماءات من تواصلت معهم وقابلتهم، إلا أن هناك حالة من التقبل لفكر داعش برغم كل ما ظهر وكُشف ونشر عن جرائمها من رفض تحكيم الشريعة، وقتل المخالفين من العلماء والدعاة والمجاهدين والمتطوعين بالتفجير أو الاغتيالات، وسرقة وتفجير الممتلكات العامة والخاصة، وعرقلة سير الثورة السورية.فضلاً عن انفضاض كل من كان يحسن الظن بهم من الدعاة والداعمين والثوار من الداخل والخارج. وأخذت أتأمل في سبب هذا الموقف الغريب من تقبل فكر فُضح وكشف، فظهر لى أنه فُضح عند العقلاء والمتابعين بدقة، أما سائر الشباب المتعاطف مع قضايا الأمة، فلم تصله الرسالة ولم تبلغه الحقيقة، والسبب في هذا أن تنظيم القاعدة وداعش بالتبع لهما انتشار كبير في شبكة الإنترنت في المنتديات وشبكات التواصل، وأفرادهما ماهرون جداً في تخطي الحواجز من جهة، وإتقان مهارات التواصل الإعلامي –بشكل غريب بالنسبة لمستوى أفرادهم الثقافية المتواضعة- مع الشباب البريء المتحمس، ولذلك يسهل عليهم نشر أفكارهم واصطياد فرائسهم، وأمر آخر وأخطر هو أنهم يجيدون فن الكذب والخداع – وقد اعترف بذلك د. إياد القنيبي حين اكتوى به في مقالته "صناعةالكذبلدى (إخواننا) للأسف"- وذلك بغرض تشويه كل مخالفيهم من جهة، ونشر أساطير حول قوتهم وصدقهم وإخلاصهم! ومن هذه الأكاذيب التي تروجها القاعدة وداعش: "لا يفتي قاعد لمجاهد"، و"من يخذل عن الجهاد فهو من الصحوات"، "لماذا تجتمع كل الدنيا على حربنا إلا لأننا على الحق"! وهي مغالطات وأكاذيب تنطلي على الشباب الجاهل والمتحمس الذي غلبته عاطفته، فلا هو يملك معلومة صحيحة ولا يفكر بعقلية سليمة، حين صدق أكاذيبهم وانخدع بكذباتهم هذه. ثم تبين ليأيضاً أن الجهل بجذور هذا الفكر المنحرف وتاريخ نشأته والكوارث التي قام بها عبر مسيرته خلال 50 عاماً وجهود العلماء في الرد على هذا الغلو، يكاد يكون مجهولاً ليس عند الشباب المتحمس والفارغ، بل مجهول أيضا عند كثير من الدعاة وطلبة العلم وحملة الدكتوراة والماجستير في شتى المجالات وخاصة الشرعية منها! ثم وجدت أن الكتب والدراسات التي تكشف الغلو والتطرف قليلة العدد بالنسبة لحجم المشكلة، وعدد النسخ التي طبعت منها محدود لا يكفي، ثم هي في الغالب موجهة إما لتعزيز قناعة من يحذر من التطرف والغلو أصلاً، وهذه سمة غالب الكتب السلفية في هذا الباب، وإما دراسات سياسية تخاطب المثقفين والساسة والإعلاميين، ولذلك تصبح مساهمة الجزء الأكبر من الدراسات القليلة عن الغلو والتطرف محدودة جداً لأنها لا تخاطب الشريحة الأهم وهي الشباب المندفع والمتحمس وغير الواعي بحقيقة هذا الفكر وتاريخه ومستقبله، والمنجذب للحظات عزة وكرامة وقوة وبطولة يراها ويسمعها في المقاطع الإنشادية الجهادية ويظن أنها طريقه للجنة. هؤلاء الشباب لا يعرفون الكثير من الحقائق عن تنظيم القاعدة وداعش، وحين يعرفونها مستقبلاً سيندمون على أعمارهم التي ضاعت في ذلك الطريق إن بقوا أحياءً، وسيندمون على أموال ودماء قد يكونون اعتدوا عليها بغير حق، ولكن هل سينفع الندم ويعيد الأمور إلى نصابها؟ نعم باب التوبة مفتوح ولكن حقوق العباد لا مسامحة فيها عند الله عز وجل. مِن هذه الحقائق المجهولة: - أن الجهاد قام قبل ظهور تنظيم القاعدة وأخواته من تنظيمات الغلو، وهذا مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم "لاتزالطائفةمنأمتييقاتلونعلىالحقظاهرينإلىيومالقيامة" رواه مسلم، فجماعات العنف والغلو والتطرف إنما ظهرت منذ سنة 1965 في مصر، وقبلها كان الجهاد قائما في أماكن متعددة ضد المحتلين في أنحاء متفرقة من عالمنا الإسلامي، فلمتكن شعيرة الجهاد غائبة لتأتي جماعات الغلو والتطرف وتحييها. - حين قام تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن، أو حتى حين تم إعلان الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين عام 1998، لم ينضم إليها إلا بعض أفراد جماعة الجهاد المصرية وجماعتينمنباكستانوأخرىمنبنجلاديشومسؤولشورىالجماعةالإسلاميةرفاعيأحمدطهالذيانسحببعدذلك،برغم وجود عشرات الجماعات الجهادية في العالم، والتي تخالف القاعدة في فكرها ومنهجها الشرعي والسياسي، ومن أمثلة ذلك: حركة طالبان، وحركة حماس، والمجاهدون في الشيشان بزعامة الأمير خطاب، فلماذا يحصر الجهاد بالقاعدة؟ وأوضاع الجهاد أقدم وأشمل وأفضل بدون تنظيم القاعدة ! - غالب منظري التيار الجهادي لم ينضموا للقاعدة، ولهم مؤاخذات عليها ذكروها في كتبهم ومواقعهم، مثل: أبو مصعب السوري ورفيقه أبو خالد السوري – الذي اغتالته داعش مؤخراً -، وأبو بصير الطرطوسي، وأبو محمد المقدسي، وأبو مصعب الزرقاوى الذي انضم للقاعدة متأخراً،في سنة 2004. - هناك حركة انشقاق عن القاعدة في صفوف رجالاتها الكبار، مثل د. فضل سيد إمام، وأبو حفص الموريتاني، وقد كشفوا عن مخالفات شرعية كثيرة يقوم بها التنظيم، وهو ما تجلى بوضوح في الشام والعراق، وللأسف فإن كثيرا من الشباب لا يتابع ما يكشفه هؤلاء من خبايا وخفايا. - كثير من العلماء والدعاة المعتبرين عند التيار الجهادي قاموا بنقد قاس لأخطاء القاعدة، وبدلاً من الرجوع عن الخطأ تم إسقاط هؤلاء العلماء! ومن أبرز الأمثلة على ذلك موقف القاعدة و(الدولة الإسلامية في العراق) من الشيخ حامد العلي حين أنكر عليهم إعلان الدولة الإسلامية في العراق سنة 2007، واليوم في هجوم داعش على الشيخ الطريفي والشيخ يوسف الأحمد بعد أن أدانوا داعش. - كثير من رموز هذا الفكر ينكر ما تقوم به داعش علناً كالمقدسي وأبو قتادة الفلسطيني، خاصة بعد اغتيال أبو خالد السوري، فعلامَ يقفل الشباب آذانهم وأعينهم عن قبول النصيحة والحقيقة؟! - إن قراءة ومعرفة ما تولّد من مصائب وكوارث جراء عمليات تنظيم القاعدة في كل مكان نشطفيه كأفغانستان والعراق واليمن والصومال سوريا كفيلة بتوعية المغيب وإرشاد الحائر وتنبيه الغافل، لو كان له عقل يفكر به وعاطفة يتحكم بها ويضعها في المكان الصحيح. إن الشباب المتحمس والعاطفي هو لا يقصد التطرف والغلو، بل هو ينشد نصرة الحق والإسلام والمظلومين، لكنه يخطئ العنوان وبدلاً من ذلك يتورط في أنشطة عبثية ضارة له ولأمته، وسيكون جهده في الحقيقة يصب في عرقلة الجهاد الحقيقي ضد المحتلين والغزاة. وأخيراً إن هناك تمدداً للفكر المتطرف والغالي بين الشباب، هذه حقيقة واقعة، وجهد القاعدة الإعلامي له دور كبير في ذلك، وهذا يطرح مسؤولية الدول الكبرى عن بقاء هذه المواقع الالكترونيةعاملة برغم أنها معروفة المصدر؟ وهل فعلاً يُراد حرب الغلو والتطرف؟ أم أن الغلو والتطرف ضرورة لتمرير الكثير الكثير من المصالح للقوى الدولية والإقليمية والمحلية؟ وأيضاً لاشك أن الإرهاب والعنف والغلو العلماني بشقيه اليساري والليبرالي تجاه التيار الإسلامي والذي تمارسه الأنظمة والقوى المدنية يصب الزيت بكثافة على النار الملتهبة، وبالتأكيد لن تجني أمتنا من الشوك العنب!