الفنانون عادة يستخدمون الأكاذيب لاخبار الحقيقة ، لكن هناك منهم أيضاً من يستخدم الحقائق لترويج الأكاذيب ولتضليل البشر . آلاف الأفلام حول العالم تم استخدامها لاعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر صانعيها ، وما فعله يوسف شاهين على سبيل المثال مجرد نموذج متواضع جداً بجانب ما صنعه المخرجون العالميون الذين برعوا فى اللعب بالتاريخ وتوجيه أحداثه لحساب مصالحهم ولخدمة أفكارهم أو سياسات بلادهم . المخرج العالمى الشهير سيرغاى ايزنشتاين أحد أهم صناع السينما فى تاريخها كله وصاحب أعظم أفلام السينما حتى الآن ، كلفه السوفييت فى عشرينيات القرن الماضى باخراج فيلم للاحتفال بذكرى ثورة أكتوبر البلشفية ، فطلب من السلطات مشاهد توثيقية كانت صورت بالفعل هجوم الثوار على قصر " الشتاء " فى بطرسبرج ، ذلك الهجوم التاريخى الذى حسم النصر للبلاشفة . لكن السلطات رفضت اعطاءه الأشرطة الأصلية ، فاضطر للاستعانة بآلاف الكومبارس وأعاد تصوير مشهد اقتحام العمال والفلاحين الثائرين على القصر ، وأنجز الفيلم الرائع الذى صار علامة من علامات تاريخ السينما وحقق نجاحاً منقطع النظير . رغم ذلك لم يكن ما حكاه الفيلم هو الحقيقة وهو ما حدث بالفعل ؛ وبعد تفتيش المؤرخين فى أسباب احجام السلطات عن تزويد ايزنشتاين بالأشرطة الأصلية ، تبين أن الذين ثاروا كانوا يرتدون أزياء عسكرية موحدة ، وأن ما حدث لم يكن ثورة شعبية ولا غضبة عمال وفلاحين ، ولا يمثل أكثر من انقلاب عسكرى مخطط له بعناية ، ثم أردوا هذا الفيلم وغيره لمجرد الدعاية والتعمية على ما حدث . الطغاة دائماً وأصحاب الأهواء والمرضى بالعقد المزمنة يخفون الحقائق ويتلاعبون بالوقائع ويعيدون تصوير المشاهد الأصلية بتزوير محكم يخدم مصالحهم ويرفع أسهمهم . وهم عادة – وهذا مشترك بين المدرسة الغربية والطبيعة الديكتاتورية – يميلون للطرح الفنى المباشر والواضح والصريح بدون أى ترميز أو تجريد ، فالطغاة والديكتاتوريون لا يفضلون الرمز حتى لا يعمل المشاهد عقله ويستخدم خياله للوصول الى رسائل غير مرغوب فيها ، ومبدعو الغرب من خلال التجسيد والطرح المباشر يريدون اقناع المتلقى بأن هذه هى الحقائق وأن ما يشاهده هو التاريخ كما حدث بتفاصيله وسلوك شخصياته دون غيره . صناع هذا النوع من الأفلام – وآخرها فيلم نوح الذى أثار جدلاً واسعاً عند عرضه فى مصر مؤخراً – يسعون لتشكيل الواقع واحتكار الرواية التاريخية للأحداث خاصة ما يتعلق بتاريخ الوجود والوقائع الكبرى التى تعد من علامات التأثير فى حياة البشر . لم نشاهد بعد فيلم " نوح " ، ولم يشاهده العلماء الأفاضل الذين اعترضوا عليه ، ومنطلق الرفض عندهم من وجهة نظر شرعية بسبب تحريم تجسيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الشاشة ، وليس الرفض من منطلق أبعاد الطرح التاريخى وطريقة تناول الفيلم له ، بالرغم من أن تشويه التاريخ واعادة توجيهه أيديولوجياً واللعب بالوقائع وتزويرها ، جريمة أبشع من التجسيد . لا أتحدث من وجهة النظر الفقهية ولا تعليق لى على الجدل المثار بشأن مسألة التجسيد ، فالقضية التى ينبغى أن تشغلنا فى ظنى هى قضية التلاعب بالتاريخ ، وربما يُعرض الفيلم ويتشربه الكثيرون بما فيه من أفكار وروايات مزيفة ، ويظل الجدل دائراً حول حرمة تجسيد الأنبياء دون الانشغال بتصحيح الرواية ونشر الحقائق وعرض الوقائع الأصلية . نمتلك الرواية الأصلية والصحيحة للأحداث ، ووجود القرآن معنا يوجب علينا التحرك فى اتجاه نشر روايته للتاريخ وحقائق الوجود وما وراءها من أسرار وغايات بكل ما توصل اليه البشر من تقنيات ووسائل وابداع . ونمتلك أيضاً أسلوب فنى يجنح للترميز والتجريد ولا يهتم بالعرض المباشر يمكن من خلاله معالجة اشكالية تجسيد الأنبياء ، بأسلوب يهتم بالقيمة والرسالة وينفذ الى طبيعة الأشياء وما وراء المجسم . من غير المنطقى أن يكون هذا هو مستوى الفن لدينا ، بعد أن طفح واقعنا السينمائى بتجسيد الرذائل والانحرافات ، مع الجنوح لتأريخ الشرور وسير الراقصات ، وينشغل علماؤنا بالهجوم على فيلم أجنبى يؤرخ لحياة نبى – بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه وأيضاً عن الجدل الفقهى المثار - . الحقيقة تشتكى أصحابها ، ونوح عليه السلام وغيره من الأنبياء كنا الأولى بهم من غيرنا لنروى قصصهم بطريقتنا للعالمين من خلال الشاشات كما نزل القرآن علينا يرويها لنا .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.