الجرائم التي يرتكبها الطغاة والديكتاتوريون بحقوق شعوبهم وأمتهم كثيرة وجسيمة وهلي لا تتوقف عند أجيالهم، بل إن آثارها السلبيَّة تمتد لأجيال قادمة. وإذا كان من الصعوبة بمكان إحصاء الخسائر والكوارث التي تصيب الأمَّة وأبناءها جرَّاء الحكم الدكتاتوري في دراسة ناهيك عن مقال، فإن أحداث ليبيا ودخول الإعلام بأشكاله المتعددة عامل هام في تلك الأحداث، سلط الأضواء وبوضوح على ما يقترفه أولئك الحكام من جرائم وتجاوزات تخرجهم عن الطبيعة الإنسانيَّة، وتجعل من الواجب السعي الحثيث وبكل السُّبل المشروعة لمواجهتهم ومحاسبتهم ومحاكمتهم. من خطاباته وخطابات ابنه سيف الإسلام تتضح الصورة، والتي ينظر بها الديكتاتور لشعبه، فهم ليسوا في عينيه سوى رعاعٍ دونه بكثير، مهمَّتهم وواجبهم الأساسي التصفيق له على جرائمه بحقهم وبحق بلادهم، وتتضخَّم ذات الديكتاتور وتنتفخ جراء عقود من ثقافة التزييف والتزوير وإعلام التطبيل والتصفيق، لتتصرَّف بصفاقة ووقاحة على أنها ليست من طين البشر بل أعلى من ذلك بكثير، فهي لا تُسأل عما تفعل، وكل حماقاتها وتصرفاتها الشائنة من عَبَث وإهدار لثروات وتبديد لطاقات، تقع ضمن الإنجاز، والذي يرقى إلى الإعجاز. هكذا وبعد أكثر من أربعة عقود من المجون السياسي والمراهقة الفكريَّة البائسة والتصرُّف المطلق بالأموال العامَّة بأسوأ ما يمكن للسفهاء أن يقترفوا، فيما تعاني البلاد غيابًا فاضحًا في البنية التحتيَّة وفقرًا مدقعًا في الحاجات الأساسيَّة، يوظِّف الزعيم أموال الأمَّة لإبادة أبنائها، وتجنيد المرتزقة المحترفين ليمعنوا فيها قتلا وتدميرًا، إنه المجد الذي صنعه القذافي فنافس به نيرون وهامان وفرعون وكثيرًا من الطغاة والذين خلَّدوا أسماءهم في سجلّ المجرمين والقتلة السفاحين، ويضيق وطن الديكتاتور الجاهل والذي يتفاخر وابنه باستخدام قائمة من الشتائم والألفاظ البذيئة بالكفاءات والعقول الوطنيَّة لترحل إلى المهاجر تصنع وتبدع في مجالات علميَّة ومهنيَّة عالية، فيما الوطن الأسير يصدر براءات اختراع في الجهل ويقنِّن ويرسِّخ التخلف والجهل والجاهليَّة بكل أنواعها. ومن أبرز صفات الطغاة المبتلين بجنون العظمة الكذب السافر والتناقضات الصارخة، فهم يفترضون بشعوبهم وبالآخرين القصور والدونيَّة، فمنطق العقيد في خطاباته خلا من أي منطق، فهو تارة يتهم القاعدة بقيادة الأعمال ضدَّه ويطالب الغرب بمناصرته، وأخرى يتَّهم الغرب بشنّ الحرب عليه، ولعلَّ اغتيال إنسانيَّة الإنسان وتسطيح عقله وفكره، ليتحوَّل إلى آلة صمَّاء تكرِّر ما يُطلب منها بغير وعي ولا تفكير، هي واحدة من أبشع نتاج وإنتاج الديكتاتوريات البلهاء، فالمراقب للإعلام الليبي -والذي يحاول مستميتًا وجاهدًا أن يظهر حب الشعب الليبي المزعوم لقائده العالمي، وينقل ومظاهرات التأييد- ليلحظ دون أدنى عناء أن كلمات وصور وشعارات وحركات المؤيدين البهلوانية، تكاد تكون مستنسخة تكرِّر نفسها بشكل رتيب ومملّ يثير مشاعر الاشمئزاز والشفقة. الاشمئزاز من ثقافة الدكتاتوريَّة ومخلفاتها، والشفقة على ضحاياها من المواطنين والمجنَّدين ممن سلخوا وينسلخوا عن إنسانيتهم ليصبحوا دمى وأدوات بيد حاكم أرعن يعاني من جنون عظمة مدمِّر ومهلك. معاناة ومأساة الشعب الليبي لا يتحمل وزرها العقيد وزبانيته وحدهم وإن كان يقع عليهم الجانب الأكبر والجزء الأعظم، شركاء العقيد في جرائمه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يتحملون ماديًّا ومعنويًّا جزءًا من المسئوليَّة، أبرزهم على الإطلاق أنظمة عربية وفرت للقذافي الطيارين والسلاح، والدول التي باعت لهذا النظام الدموي الأسلحة الفتاكة، والتي يباد بها جموع من الشعب الليبي، والذين عقدوا معه الصفقات وأبرموا الاتفاقيات وكالوا له عبارات الإشادة والمديح، والمفكرون والإعلاميون والفنانون والذي كانوا يزورون ذلك المجرم ويتملقونه، والصامتون على جرائمه ومجازره وإعداماته ردحًا من الزمان، إن مساعدة الشعب الليبي في محنته ومأساتِه هي أقلّ ما يجب على الجميع أن يقوم به، مناصرة للحق وتكفيرًا عن السلبيَّة القاتلة والتي امتدت عقودًا من الزمان. المطلوب من المجتمع الدولي تجريم المرتزقة ومهمَّاتهم القذرة ومحاكمة الحكومات والمؤسَّسات والشركات التي تقدِّم لهم التسهيلات لتنفيذ جرائمهم الوحشيَّة. وحتى لا تتكرَّر مأساة ليبيا في غير مكان من عالمنا العربي، فإن أقلَّ الواجب يستلزم أن تُقاطع وتُدان الحكومات الديكتاتوريَّة خصوصًا والتي ينزف تاريخها -ومنذ عقود- بدماء الأبرياء في مجازر سجون ومدن وأحياء، بشكلٍ واضح وصريح. المصدر: الاسلام اليوم