(1) لم أكن أعبأ كثيرا بما يسطّره كتبة السلطة فى ما كان يسمى بالصحف القومية.. فقد كنت على يقين أن الناس لا يأخذون كلامهم مأخذ الجد.. بل كانوا يتندّرون على مدى ما تكشفه كتاباتهم من نفاق فاقع اللون.. ولكنى بدأت بعد الثورة أهتم بكتابة البعض منهم .. ممن أعرف أنهم أكثرهم دهاءً.. وذلك لكى أتبين كيف تحول هؤلاء المنافقون من النقيض إلى النقيض، دون أى جهد أو تفسير أو خجل .. وقد أذهلتنى هذه الحقيقة.. فإن بعضهم يتمتع بدهاء غير عادي فى تلبيس الأمور: فهم يتحدثون عن الثورة الرائعة والشعب العظيم الذى هبّ ينتزع حريته ويطالب بحقوقه فى الحرية والديمقراطية.. ويبدون حرصا عجيبا على أن يقدّموا النصائح لشباب الثورة كأنهم، أحرص على الثورة من أصحابها.. انقلبوا بين عشية وضحاها من عبدة فى محراب الطاغوت الفاسد المستبد، إلى أنبياء ناصحين للذين ثاروا على الطاغوت وأسقطوا نظامه... وهنا يكمن الخطر فى خطابهم .. فالذى يقرأ لهم بوعى يدرك أن فى ثنايا هذا الخطاب ألغاما ضد الثورة وتخويفا مبطّنًا من مسارها واستمرارها.. أما حسن النية وخالى البال من القُرُاء فسوف يقع أسيرا فى هواجس وأوهام عن خطر استمرار الثورة على أمن البلاد واستقرارها... ولكى يكون لهذا الكلام معنى عمليا ملموسا أردت فى هذا المقال أن أقدّم نموذجا واقعيا لحالة مشخّصة فى واحد من الكُتّاب أعتبره من أبرز الكُتّاب نفاقا وأكثرهم دهاء .. لن أصرح باسمه فما قصدت أن أجرّح شخصا بعينه.. فهو ليس أكثرمن حالة أو عينة للدراسة فحسب.. (2) ولننظر الآن فيما كان يكتبه صاحبنا قبل الثورة وكيف انقلب على كل ماكتبه بعد الثورة.. ومن أعجب الأعاجيب أنه ظل ثابتاعلى موقفه من دعم للنظام السابق وعدائه للثورة لآخر لحظة.. فقد كتب يوم 25 يناير فى مقال له مستنكرا دعوة الشباب للتظاهر فى يوم الغضب معتبرا هذه الدعوة عداءًا مبيّتا ضد الشرطة يوم عيدها.. يقول: "ما الذي يحفز مجموعة من الشباب المصري إلي أن تختار عيد الشرطة هذا العام موعدا للإعلان عن يوم للغضب ضد سياسات الحكومة.. وتنشر هذه الدعاوي علي مواقع الكترونية عديدة.. علي أمل أن يحتشد آلاف المصريين في ميدان لاظوغلي القريب من وزارة الداخلية للتظاهر ضد الشرطة. . بدلا من أن يتظاهروا تحية لجهودها في يوم عيدها.." فما هى هذه الجهود..؟؟ يقول الكاتب: "لأن الأمن المصرى تمكّن من إفشال مؤامرة تنظيم القاعدة التي استهدفت تخريب وحدة الوطن.., ونجح في كشف لغز حادث تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية..." طبعا نحن نعرف الآن من وثائق جهاز مباحث أمن الدولة أن جريمة تفجير الكنيسة كانت من تدبير وزير الداخلية ورجاله... ولكن صاحبنا يتمادى فى نفاقه للعادلى ويهاجم الثوار ويصف تفكيرهم بأنه تفكير مريض.. فيقول: "هل خربت نفوس البعض إلي حد فقدان القدرة علي التمييز بين ما يجوز الغضب من أجله.. وبين عمليات استفزاز للشرطة مقصودة لذاتها.. تستهدف إعلان العداء..؟ ولماذا يسيطر هذا التفكير المريض علي مجموعات من الشباب..؟!" ثم يختم مقاله بالدفاع عن الشرطة قائلا: "ان أخطاء الشرطة المصرية تظل جدّ محدودة.. ولاينبغي أن تهدم احترام المجتمع لمؤسسة وطنية..." ترى ماذا يمكن أن يقول صحبنا هذا بعد أن أصبحت الدنيا كله تعرف مدى الخراب والدمار الذى لحق بمصر وبالشعب المصري وكيف تحولت مصر إلى دولة بوليسية تحت وطأة هذه الأداة القمعية..؟! وأي احترام هذا الذى يتحدّث عنه صاحبنا والمجتمع المصرى بأسره يلعن هذا الجهاز ويكنّ له قدرا لا حدود له من الكراهية والسخط...؟! وأسال: ألم يَردْ بخاطر صاحبنا هذا أبدا أن هذه الشرطة التى يثنى عليها هى التى قتلت الشاب خالد سعيد بطريقة وحشية، أمام الناس ثم ألقت جثّته فى الطريق العام .. وقتلت المئات من أمثاله من المصريين الأبرياء فى أقسامها وفى المظاهرات الاحتجاجية، وأصابت الآلاف بجراح، بعضها تسبب فى عاهات خطيرة ومزمنة، ليس من أسوئها فقد البصر.. وأنها قامت بتعذيب وترويع آلاف الأسر المصرية على مدى ثلاثة عقود.. وكأن قَدَرُ صاحبنا هذا ألا يكون منافقا فحسب بل أن يكون أعمى أيضا، لا يستطيع أن يرى الحقيقة...؟!.. وصدق الله العظيم: [فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور] . (3) لازلنا نقدم عينات من كتابات صاحبنا قبل الثورة .. بمناسبة ما أثير حول انتخابات مجلسس الشعب الأخيرة.. من حديث حول ضرورة الرقابة الدولية على الانتخابات منعا من تزويرها.. ولأن صاحبنا ضد الرقابة ومع إطلاق بد السلطة فى تزوير الانتخابات كما يحلو لها كتب مقالا بعنوان "النمرة غلط!".. فى هذا المقال ينصح الرئيس الأمريكي أوباما بألا يستمع إلى نقد الأمريكيين لموقفه المتراخى من قضية الرقابة على الانتخابات المصرية.. ولا يخجل من أن يذكّره بحجم المساندة القوية التى تقدمها مصر لإدارته كى تظل فاعلة وقوية [لتحظى-كما يزعم- باحترام المسلمين والعرب، وتنجح فى استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين]... ومجمل ما كتبه صاحبنا فى هذا المقال مجرّد كلام فارغ وكاذب.. خصوصا ما يتعلق باحترام المسلمين والعرب لإدارة أوباما.. كما أن كلنا يعلم كيف أن دور مصر مبارك فى القضية الفلسطينية كلها كان حقيرا.. و كان مكرّسا لخدمة المصالح الإسرائيلية.. وخيانة للقضية الفلسطينة على طول الخط...! والمهم أن موقف صاحبنا كان ضد أى رقابة على الانتخابات ولا يهمه أن يتم تزويرها لصالح السلطة التى يخدمها.. ولا يهمه أن يسرق حزب مبارك إرادة الشعب .. ثم يحتفل أعضاؤه يوم الافتتاح المشهور بالهتاف لأحمد عز مهندس عملية التزوير.. ويطلقون عليه لقب عبقري الانتخابات... منافق وفاجر أيضا...! (4) ويظل صاحبنا يفرز إبداعاته فى النفاق فيكتب فى 24نوفمبر2011 يحث المواطنين على انتخاب وزراء [نعلم] أنهم يحظون بأكبر قدر من كراهية الناس لفسادهم وسوء سمعتهم .. يقول: " إنه لا يجد حرجا المرة في أن يدعو هيئة الناخبين المصريين، إلي أن يساندوا بقوة بعض الوزراء الذين رشحهم الحزب الوطني في عدد من دوائر الجمهورية.." ويزعم كاذبا: " أن هؤلاء الوزراء قد أعطوا الوطن الكثير، ويستحقون ثقة المصريين وفاء لأدائهم واجباتهم علي النحو الأكمل ويزيد.." [ يا ألطاف الله..!] العجيب أن من بين هؤلاء الوزراء: الدكتور يوسف بطرس غالي، حيث دعا صاحبنا " مسلمي شبرا قبل أقباطها إلي أن يقفوا إلي جواره.." لماذا...؟ لأنه فيما يزعم صاحبنا: "رجل شجاع في مواجهة معارضيه.. وهو حرفيّ مهني قَلّ أن يكون له نظير في عالم المال والاقتصاد...!" وأخيرا دعا إلى انتخاب سامح فهمى الوزير الهمام ( حسب وصفه) وأنه سيعطيه صوته لأنه من أبناء دائرته... يقول هذا الكلام فى الوقت الذى يعلم الجميع أن سامح فهمى كان بطل فضيحة صفقة بيع الغاز لإسرائيل.. وأنه متهم بتبديد المال العام وتبديد ثروة البلاد الحيوية .. وأنه وقّع على اتفاقية فيها بنود سرية مع نظيره الإسرائيلى لبيع الغاز سنة 2005.. وقد كشف النائب حمدين صباحى عن هذه الحقيقة فى وثيقة بالعبريّة حصل على صورة منها.. وأثار هذه الواقعة فى مجلس الشعب، ولكن لم يردّ عليه أحد من أعضاء الحكومة.. صمتوا صمت القبور.. ومع ذلك يحثّ صاحبنا المصريين على انتخاب الوزير الهمام...! (5) لا تستبعد شيئا على هذا المنافق الكبير إذا علمت موقفه عندما أثير موضوع المواد المسرطنة التى جلبها واستخدمها وزير الزراعة الأسبق يوسف والى ، متعاونا فى ذلك مع إسرائيل، لتخريب الزراعة والمحاصيل المصرية.. وفتح لإسرائيل الباب واسعا لنشر الأمراض الشرسة بين المصريين .. وفى الوقت الذى قام فيه زميل له هو الكاتب الصحفى مجدى حسين بحملته الشهيرة ضد وزير الزراعة ولقى ما لقي من اضطهاد وسجن.. فى ذلك الوقت خرج علينا صاحبنا دون خلق الله يدافع بصفاقة نادرة عن يوسف والى زاعما: إنه لا يوجد شيء اسمه مواد مسرطنة فى المبيدات الحشرية وأنه رجع فى هذا الرأي إلى الخبراء.. ولك أن تتصور مقدار الثناء والإكراميات التى انهالت عليه من صديقه يوسف والى...! (6) ننتقل الآن لنقدّم عينة من كتابات صاحبنا بعد الثورة.. فقد كتب مقالا يعرض فيه رؤيته ويؤكد أن الهدف الأول لثورة 25 يناير هو: تعقّب الفساد، وقطع دابره ومطاردة شخوصه بحكم القانون، وتعقيم مصر من مخاطر عودته خلال إصلاح شامل للبنية القانونية للاقتصاد المصري ..." إلى آخر هذا الكلام الذى تركب عباراته بعضها بعضا لغير هدف ولا معنى واضح مستقيم .. وفيه نصائح لم يطلبها أحد .. ولا يريدها من أمثاله هو بالذات.. ثم يقول ببجاحة أنه يعتبر نفسه مواطنا إصلاحيا.. بحكم السن والخبرة.. وأنه يرى من واجبه أن يقدّم الشكر إلى رئيس الوزراء السابق أحمد شفيق الذي تحمل مسئولياته بشجاعة وتحمل الكثير في هذه الفترة العصيبة.. واستطاع عبر أسلوبه الفريد في التواصل والحوار أن يدخل قلوب غالبية البيوت المصرية... ولا ندرى من أين جاء صاحبنا بإحصائية تثبت دخول أحمد شفيق قلوب غالبية البيوت المصرية..؟أ أليس هذا عجيبا..؟! وأي أسلوب فريد فى التواصل والحوار كان يتمتع به أحمد شفيق، بينما لم يسمع الناس منه إلا كل ما يصدم مشاعرهم.. ويعزّز كراهيتهم له وشكوكهم في نواياه..؟! ويكفي أنه كان اختيار الرئيس المخلوع لكى يكون موضع كراهية الشعب كله .. وقد ظلت هتافات الملايين تتواصل أسبوعا بعد أسبوع ضده حتى سقط... وكأن صاحبنا هذا لا يسمع ولا يعقل ما يجرى حوله...! ثم يتجه صاحبنا نحو الثوار لينصحهم بحكم الأقدمية والخبرة طبعا فيقول: " إن الاولويات الان هى: ضمان الانتقال السلس للسلطة عبر انتخابات نزيهة.. تتقدم فيها الانتخابات الرئاسية الانتخابات البرلمانية التي تحتاج إلي وقت أطول ومناخ أكثر هدوءا.. وضمان محاكمة كل الذين نهبوا ثروات البلاد أمام قاضيهم الطبيعي..." لا يزال الرجل يتحدث عن أولويات الثورة [وما هو مفهوم بالضرورة من أصحابها..] فهل يمكن أن يصدق صاحبنا هذا إنسانٌ عاقل فيما ينصح به من نزاهة الانتخابات، وقد علمنا موقفه من الانتخابات المزورة ونصائحة للمواطنين بانتخاب وزراء اشتهروا بالفساد وتبديد الأموال العامة...؟! ثم ما هو هذا الحرص على تقديم هؤلاء المجرمين إلى قاضيهم الطبيعى...؟! .. ولماذا لم يجهر بهذا الرأي عندما قُدّمَ رجال أبرياء إلى محاكم عسكرية.. وأعنى بهم خيرت الشاطر وصحبه..رغم صدور أحكام بالبراءة فى حقهم من جانب قاضيهم الطبيعي...؟! وفى أي مستنقع كان يخوض فى تلك الأثناء...؟! (7) أحكى لكم قصة عن صاحبنا هذا نبتعد فيها قليلا عن الجهامة التى سادت فى هذا المقال .. والعهدة فى هذه القصة عند الدكتور محمود الكردي أستاذ علم الاحتماع بجامعة القاهرة.. قال: " دُعيت يوما مع مجموعة من أساتذة الجامعة لحضور محاضرة للسيد رئيس مجلس إدارة مؤسسة صحفية (كبيرة ومعروفة).. فاستمعنا نصف ساعة لكلام يبدو منطقيا شديد الحبكة .. ثم قام المتحدّث فخلع جاكتته ووضعها على كرسيّ بجواره.. وعاد يستكمل المحاضرة فإذا به يقول كلاما يناقض كل ماسبق أن قاله من قبل.. فلم نملك أنفسنا أمام هذا الاستفزاز إلا أن نعلن استنكارنا.. قلنا له: لقد هدمت كل ما قلته فى النصف ساعة الأولى من المحاضرة... فماذا كان رد صاحبنا..؟؟ لقد قال ببساطة واستخفاف: ألم تلاحظوا أننى خلعت جاكتّتى...؟؟!" يقول الدكتور محمود الكردى: لقد برهن هذا الرجل العجيب أنه يستطيع أن يغير رأيه بالبساطة التى يغير بها الإنسان ملابسه.. ولكن أن تستعرض هذه المهارة وتفاخر بها فهذا استفزاز غير مسبوق...! والسؤال الآن هو: هل هذا نموذج فريد من الكتُّاب المنافقين...؟! وإجابتى: لا.. بكل تأكيد فهم كثيرون.. أكثر من الهمّ الذى على القلب.. وما هذا الرجل إلا عينة واحدة منهم.. ومكمن الخطر فيهم هو قدرتهم على تلبيس الباطل بصورة الحق، وتشويه الحقيقة بأساليب تخفى على القرّاء ذوى النية الحسنة، الذين لا يتمتّعون بمهارات القراءة النقدية.. هؤلاء الكُتّاب هم الأدوات الخفية للحرب الفكرية التى يستخدمها الآن أعداء الثورة المصرية.. وعلى الصحافة المصرية أن تتخلّص منهم ، وعلى الصحفيين الأحرار أن ينتفضوا ضد هذه القبيلة الفاسدة من الكتاب المنافقين .. وأن يقتلعوا جذورهم من الأرض فإن استمرار وجودهم يلوّث التربة فلا تسمح بنمو نباتات جديدة صالحة لحياة حرة نظيفة... [email protected]