اسمي "أحمد محمد بسيوني".. من مواليد عام 1978، أعمل كمدرس مساعد في كلية التربية الفنية بجامعة حلوان، ربما لم يسمع الكثيرون عني؛ فأنا مواطن مصري عادي، أسكن في حي روض الفرج، حياتي هادئة ومثالية إلى حد كبير، تزوجت منذ عدة سنوات، ورزقني الله بطفلين في غاية الروعة، ابني الكبير "ادم" ست سنوات، ولد شقي ومشاكس، يحاول أن يقلدني في كل تصرفاتي، أما الابنة الصغرى "سلمى" فلم تكمل عامها الأول، قريبة إلى قلبي، جميلة وهادئة، أعشقها بجنون، بحمد الله فقد أنهيت دراستي للماجستير منذ عدة سنوات، كما أنهيت رسالة الدكتوراه، وكنت أخطط لمناقشتها الأيام المقبلة. صحيح أن حياتي مستورة والحمد لله، ولكن من منا لم يشعر بالحسرة على حال مصر؟ وكيف أصبحت أوضاعنا في السنوات الأخيرة؟ إذا كان الجميع يعتصره الألم على الوطن، فان ألمي مضاعف بما أحمله من حس فنان مرهف يحمل كل الأحلام الوردية، ويرغب أن يحيا أبناؤه في بلد تحترم كل مصري، ويشعر فيها بالأمان والكرامة، كنت أحاول أن أقدم النموذج المحترم الذي يرضي الله من خلال عملي بالجامعة، أجتهد كثيرًا مع طلابي حتى أبسط لهم المعلومات بأكبر قدر ممكن، وأقدم ورش العمل لهم على نفقتي الخاصة، ولأني أحمل هم الوطن في قلبي فقد ساهمت مع الكثير من الشباب في نشر دعوة التظاهر ليوم 25 يناير، حدثت طلابي وزملائي من أعضاء هيئة التدريس ليصبح لنا دور إيجابي في التغيير، قررت أن أنزل للشارع في ذلك اليوم للمشاركة في صناعة التغيير، وأيضًا لتجميع أكبر قدر من الصور التي أستفيد منها كجزء من رسالة الدكتوراه. مر اليوم بشكل مثالي إلى حد كبير، لولا الهجوم الهمجي للأمن على ميدان التحرير بعد منتصف الليل، كانت سعادتي لا توصف عند عودتي للمنزل في ذلك اليوم، فقد شعرت بأنني واحد ممن أشعلوا شرارة الحرية، وساهموا في كسر حاجز الخوف عند كل المصريين، حكيت لزوجتي عن الحماس والإصرار العجيب الذي رأيته من الشباب، وعن نيتي المشاركة في استكمال التظاهر كل يوم، وبالفعل خرجت يومي الأربعاء والخميس، وشاركت الآلاف من الشباب في ثورتنا ومطالبنا العادلة، بدأنا الاستعداد لجمعة الغضب، حيث قررت أن أصلي الجمعة وأتجه إلى ميدان التحرير، عند باب المنزل وجدت "ادم" يهرول إلى وهو يهتف: (بابا خدنى معاك المظاهرة، عايز أعمل زى ما أنت بتعمل)، ملأت السعادة قلبي وأنا أحبس دموعي: (آدم خذ بالك من ماما وأختك سلمى.، بكره هاتكبر وتعمل أحسن من اللي أنا بعمله)، لا أدري لماذا وصلت أمي للمنزل في هذه اللحظة بالذات!! ولا أعرف السبب الذي دعاها أن تنضم إلى زوجتي في مطالبتي بالبقاء في البيت!! لا زلت أذكر كلماتي لها: (لا تخافي يا أمي، سأرجع بإذن الله، دعواتك لنا بالتوفيق، لن يضيع الله مجهودنا لإعادة بلادنا لتصبح أحسن بلد في الدنيا). وضعت قبلة على جبين أفراد أسرتي وحملت الكاميرا متوجهًا نحو ميدان التحرير، وجدت اليوم المشهد مختلفًا.. كم هائل من القنابل المسيلة للدموع، رصاص مطاطي هنا وهناك، حالة من الكر والفر من الجانبين، بدأت في تصوير كل ذلك باستخدام العدسة المقربة بالكاميرا لأرصد حركة رجال الشرطة من بعيد وأحذر الشباب، من بعيد رأيت قناصًا يستعد لإطلاق النار على أحد المتظاهرين، جريت نحوه بسرعة ودفعته على الأرض قبل أن تصيبه النيران، سقطنا سويًا بعيدًا عن تلك الطلقات، قام الشاب واحتضنني بقوة وهو يشكرني على إنقاذ حياته، تكرر الموقف مرات ومرات.. وتحولت أنا إلى كشاف ومنظار للمتظاهرين، عين صائبة وكاميرا دقيقة، وتستمر المواجهات على أشدها حتى ساعات الغروب، يسقط عشرات الشهداء ومئات الجرحى، وقبل أن تنسحب الشرطة من الميدان.. سقط أحد المتظاهرين قتيلاً بجواري، بحثت عن مكان القناص، فوجدته رابضًا فوق مجمع التحرير، عندها رفعت صوتي محذرًا الشباب، وقبل أن ألتفت.. دوى صوت الرصاص عاليًا، ولكن هذه المرة كانت الطلقات تستقر في صدري، حاولت أن أتحامل على نفسي، ولكن لم أستطع الصمود أكثر من ذلك، سقطت على الأرض وأنا ألمح من بعيد عربة أمن مركزي تأتي مسرعة في اتجاهي، ابتسمت من قلبي، وشعرت براحة غريبة، رأيت أنوارًا تتلألأ من بعيد، صحيح أن كل من كان حولي تأثر بمشهد العربة وهي تدهس جسدي وتمزقه، ولكن صدقوني لقد أحسست براحة كبيرة وهدوء هائل، كنت أراقب ما يحدث حولي ولا أستطيع أن أتكلم، أو أعبر عما يجيش في صدري، معقول أن هذا هو الموت الذي كنا نخاف منه!! لابد أنه شيء آخر، لأن ما أعيشه الآن هي لحظات رائعة من الراحة والسكينة، كان أكثر ما يؤلمني هو تلك اللحظات من القلق والاضطراب الذي عاشته أسرتي، فأنا أشاهد شقيقي "باسم" يبحث عني طوال الليل في كل مكان، وهذا ابني "ادم" يسأل أمه: متى يأتي أبي، وحتى حبيبة قلبي "سلمى" أراها تبحث عني بين وجوه الحاضرين. ويأتي الصباح حاملاً الخبر الموعود: ( البقاء لله يا حاج.. ابنك استشهد أمس برصاص الشرطة، وجثته الآن في المستشفى)، سامحيني يا أمي.. أني جعلت الحزن يعتصر قلبك، سامحني يا أبي.. أنك تعبت كثيرًا، وأنت تبحث عن مكان جثتي، أعرف أنكم عايشتم أربعة أيام من العذاب والبحث بين المستشفيات، كنت أتمنى أن أحدثك يا أمي، وأخبرك أنني هنا في مستشفى "أم المصريين" بالجيزة، ولكن ما باليد حيلة، سامحيني يا أمي.. فدموعك عندي غالية، كنت أتمنى أن أقوم وأرتمي في حضنك الآن، ولكن يكفيني هذه المشاعر الصادقة التي شاهدتها من جميع من حضر جنازتي، ألم تكوني تحلمين دومًا يا أمي أن يصبح ابنك في أعلى المراكز بالدنيا والآخرة، هاأنذا أحقق حلمك الآن، وأسقط شهيدًا من أجل وطني، كفاك دموعًا يا أمي.. فدمائي لم تضع سدى، لا أستطيع أن أصف لكي سعادتي وأنا أشاهد ثورتنا تكتمل، ومطالبنا تتحقق شيئًا فشيئًا، هل هذا حلم أم حقيقة؟ كم أود أن اخرج من قبري وأجري في شوارع بلدي، ألف جسدي بعلم مصر، وأعانق كل شاب أكمل المسيرة حتى نهايتها. صدقوني.. لقد التقيت هنا بمئات الشهداء، واحتفلنا سويًا بعودة الروح إلى مصر، ولكني أحمل منهم جميعًا وصية واحدة إليكم، يا شباب.. دمنا أمانة في أعناقكم، لقد سقطنا شهداء من أجل أن نرى مصر جديدة لنا ولأولادنا، يا شباب.. لنترك الماضي الآن، وليبدأ كل منا في العمل الجاد، ماذا ستقدم اليوم من أجل بلدك؟ هل حددت دورك في المرحلة التالية؟ أرجوك ألا تخذلنا جميعًا، كن وفيا لدمائنا، واعمل شيئًا من أجل مصر. [email protected]