دخلنا في الجد ، والفريق السيسي في طريقه لإعلان ترشحه لرئاسة الجمهورية بعد الأنباء المتواترة حتى هذه اللحظة عن قبول المجلس العسكري لاستقالته تمهيدا لترشحه للرئاسة ، وهذا هو الصواب في وصف ما حدث ، لأنه لا يوجد في القانون المصري ولا العسكرية المصرية شيء اسمه "تفويض" ، فهذا كلام مصاطب ولا صلة له بالدولة الحديثة ، هناك قبول للاستقالة ، لأنها الشرط القانوني لترشحه للرئاسة أو حتى البرلمان ، لم تكن الخطوة مفاجئة للكثيرين ، لأن غالبية التقديرات كانت تذهب إلى أن الفريق السيسي عازم على الترشح ، والتسريبات التي تم تداولها كشفت عن أن توليه للمنصب كان حلما يداعب خياله من سنوات بعيدة ، والسيسي فيه مسحة صوفية واضحة ، لا تنفي حساباته الدقيقة والصارمة كقيادة استخباراتية وعسكرية ، وأنا أتحير كثيرا في فهم صلة التصوف بالاستخبارات لأن هذه التركيبة تكررت في مصر ودول أخرى بشكل لافت ، وأعتقد أن هذا الدافع هو الأقوى في إصراره على خوض مغامرة رئاسة الجمهورية في تلك الظروف القاسية وشديدة الصعوبة ، لأن الحسابات السياسية والعقلانية بكاملها كانت تستدعي منه الإحجام وتأجيل الخطوة على الأقل في الدورة الرئاسية الجديدة ، ومكانه هو والمؤسسة الصلبة وهو يدير الدولة من وراء الكواليس يخفف عنه مسؤوليات جسيمة ، ويحمي صورته كمنقذ وضامن وحامي للدولة ، دون أن يتحمل أي مسؤولية شعبية أو دستورية عن أي انتكاسات سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها ، تلك حسابات السياسة الحقيقية والمنطقية ، ولكن حسابات "الحلم" هي التي حسمت الأمر ودفعت به إلى هذا المسار المغامر والمحفوف بالمخاطر . الجموع التي طالبت بترشح الفريق كانت تتحدث بحماسة وانفعال زائد عن أن "الأيدي المرتعشة" لا تصلح لإدارة الدولة ، وبالتالي لا بد من الإطاحة بأمثال عدلي والببلاوي والمجيء بالرجل القوي أو "الدكر" حسب التعبير الشعبي الممجوج ، ورغم أن هذه الأيدي كانت أياديه هو وأجهزته بالمقام الأول ، أما واجهة المستشار عدلي أو الدكتور الببلاوي فكانت جهة تنفيذية للسياسات والإجراءات ، الكل يعلم ذلك ، ورغم أن الأيدي "المرتعشة" نتج عنها عدة آلاف من القتلى من المواطنين بالرصاص الحي وبالمدرعات والطائرات في احتجاجات الشوارع وعشرات الآلاف من الجرحى وعشرات الآلاف من المعتقلين ، فإذا كانت هذه أيدي مرتعشة ، فهل ينتظر المتحمسون للفريق أن يقتل خمسين ألف أو مائة ألف مواطن ، حتى يثبت لهم أن يده ليست مرتعشة ، وهل سيكون الفريق السيسي تحت ضغط هذه الهلاوس وهو يمارس صلاحياته مباشرة كرئيس مسؤول ، وجها لوجه ، إذا اندفع في ذلك فسنكون في طريق السيناريو السوري حتما ، وإذا تمسك بالعقل السياسي والتوازن فسوف يتهم بأنه صاحب يد مرتعشة وهو ما يجعل مجاذيبه يتآكلون تدريجيا ، الأمر نفسه في حزمة التحديات الاقتصادية التي تواجه الدولة ، فهذا شعب يقترب من التسعين مليون إنسان ، أغلبهم تحت خط الفقر بمسافة ، وبنية أساسية شديد التخلف واللا آدمية في أغلب مدنه وقراه باستثناء العاصمة وبعض المدن القليلة ، ناهيك عن ما يقترب من الإفلاس المالي للاحتياطي النقدي لأن ما هو موجود ، وهو ضعيف جدا لدولة كبيرة ، أغلبه قروض ، ومؤسسات غير قادرة على الإنتاج ، ومستويات فساد غير مسبوقة ، وأضف إليها طاقات غضب وتدمير صامت تقدر بالملايين من المواطنين الذين يشعرون بالقهر والإحباط من الإطاحة بالرئيس السابق للائتيان بجنرال على أطلاله ، وهؤلاء قادرون على تفريغ أي خطط تنموية أو إصلاحية ممن مضمونها ، وأضف إلى ما سبق تحديات أمنية خطيرة للغاية من قبل تنظيمات إرهابية ، بقدرات تسليحية وتدريبية عالية بفعل التشظي الأمني في دول الجوار ، وقد يزداد هذا التحدي فداحة واتساعا إذا تم إحباط الاحتجاجات السلمية في الشوارع والتي تمثل "اسفنجة" تفرغ الغضب والاحتقان في هتافات وأناشيد بعيدا عن طلقات البارود ، وأضف إلى ذلك أيضا جبهة وطنية معارضة عريضة ستزداد اتساعا بعد هذا الترشح وهناك مستويات كراهية غير مسبوقة للسيسي الآن من قبل القوى المدنية والثورية التي تحالفت معه في 30 يونيو وهي تعطي شرعية ثورية لا يستهان بها لاحتجاجت الإسلاميين ، وتعزز من انقسام الوطن المروع وغير المسبوق . هي مغامرة بكل تأكيد ، سواء للسيسي كشخص ، أو للمؤسسة العسكرية ككيان ، أو للوطن كله وهو يحلم بالخروج من هذا الكابوس الذي يعيش فيه من 3 يوليو وحتى الآن .