قبل أيام صدر موقف لافت من الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم رئيس الحكومة الإماراتية وحاكم دبي وهو الرجل الثاني في منظومة الحكم بدولة الإمارات الداعمة للنظام في مصر بعد 3 يوليو، فقد قال لمحطة " بي بي سي " : " آمل أن يبقى - أي السيسي - في الجيش ، وأن يترشح شخص آخر لمنصب الرئاسة " !. بعد ساعات قليلة صدر عن مكتبه ما يشبه التلطيف لأثر كلامه الذي بدا مفاجئا وغريبا في سياق العلاقات القوية بين مصر والإمارات بعد عزل مرسي حيث قال مصدر مسؤول إن ما قاله الشيخ محمد بشأن السيسي هو نصيحة أخوية. والسؤال : إذا كان ما قاله الشيخ محمد بن راشد نصيحة أخوية فهل تُقال في حوار يسمعه ويشاهده الملايين في العالم، أم تُقال في جلسة أخوية بينه وبين السيسي ، أو في اتصال أخوي بينهما ، أو عبر طرف ثالث محل ثقة، أو أي وسيلة أخرى خاصة بين الاثنين، ما قيل في ال" بي بي سي " علنا خرج عن كونه نصيحة أخوية إلى كونه موقفا صريحا صادما على مستويين. الأول: أنه بينما تتصاعد الأصوات الداعمة لترشح السيسي والضاغطة عليه للاستجابة ، ورغم أنه لم يتخذ موقفا حاسما بهذا الصدد إلا أن المؤشرات تقول إنه قد يترشح خصوصا بعد قوله أنه لا يمكن أن يعطي ظهره للشعب ومطالبته بتفويض من الشعب والجيش ، عندما يحدث ذلك ثم يأتي الصديق الإماراتي ليقول له نأمل ألا تكون رئيسا فإن هذا موقف محبط للسيسي ولمؤيديه في وقت دقيق وحساس ربما يؤشر على نشوء أزمة مكتومة ما قد يؤثر على مستوى الدعم والمساندة. الثاني : أن كلام المسؤول الإماراتي الكبير هو عين التدخل الصارخ في شأن مصري داخلي، وإذا كانت السلطة شديدة التوتر تجاه أي كلمة من أي طرف خارجي قد تُفسر على أنها تدخل في شؤون مصر فإن ما قاله الرجل الثاني في صناعة القرار بالإمارات هو التدخل الواضح في شأن سيادي مصري، مع ذلك فقد مر ما قيل دون أي رد وهن يمكن أن يتحجج البعض ويقول هل مسموح للبعض انتهاك السيادة بينما يُواجه كلام أقل من ذلك من آخرين ومن باب النصيحة الأخوية أيضا بالغضب وتوجيه الاتهامات إليهم ويصل الأمر لاستدعاء السفراء أو طردهم؟!. توقفت في بيان رئاسة الحكومة الإماراتية أمام عبارة تقول : " إن النصيحة الأخوية للشيخ محمد بن راشد هي ألا يترشح الفريق السيسي كعسكري لمنصب رئيس الجمهورية، أما ترشحه كمدني استجابة لمطالب شعبية فهو أمر شخصي يخص الفريق السيسي". ومع تقديري لمن كتب تلك العبارة للخروج من المأزق لكنه لم يكن موفقا حيث جاء بتبرير يجافي المنطق والواقع القانوني والسياسي المصري الذي يجهله من كتب البيان إذ كيف سيترشح السيسي كعسكري؟، بالطبع لن يترشح وهو في الخدمة وزيرا للدفاع، بل سيترشح بعد أن يستقيل من منصبه، أو يتم إعفاؤه، وهنا سيكون عسكريا سابقا ويصير مواطنا عاديا ومرشحا مدنيا. أقول إن ركني الدولة في الإمارات هما: إمارتا أبوظبي، ودبي، لكن الفارق أن دبي التي تتميز بالانفتاح في نمط الحياة والعيش تتميز بالانفتاح السياسي أيضا أي أن التحفظات لدى قادتها أقل من أبوظبي المحافظة اجتماعيا والمتحفظة سياسيا. ولذلك نجد الشيخ محمد بن راشد يتحدث بصراحة دون قيود ويقول في العلن ربما بعض ما يقال وراء الأبواب المغلقة ولذلك أعلن موقفا من السيسي قد يكون هو الموقف العام لأبوظبي ومؤسسة الحكم بالدولة لكنه لا يصدر علنا من إمارة أبوظبي ومن الرئاسة التي تتولاها تلك الإمارة. وإذا ما ذهبنا للسعودية وهي الأشد تحفظا خليجيا في دبلوماسيتها سنجد أنه لم يتم رصد موقف معلن لها حتى الآن سواء مع ترشح السيسي أو ضده لكني استشف دوما توجهات السياسة السعودية الغامضة من عدد من كتابها ومنهم عبد الرحمن الراشد المدير العام لقناة "العربية" ، وهي اللسان الإعلامي الفضائي للمملكة، وهو كان رئيس تحرير سابق لجريدة "الشرق الأوسط " ، وهي اللسان الإعلامي المكتوب للمملكة دوليا، وما يكتبه الراشد في تلك الجريدة وما يروج له في "العربية " يعكس غالبا المواقف الرسمية التي لا تريد المملكة التصريح بها علنا. في اليوم التالي لتصريحات الشيخ محمد بن راشد كان مقال الراشد في "الشرق الأوسط " بعنوان : "السيسي ومغامرة الترشح!"، ولا أدري هل هذا التزامن كان مصادفة بحتة، أم أنه أمر منسق؟، وهل هذا المقال يمكن اعتباره نصيحة أخوية أيضا من السعودية للسيسي عبر منبر إعلامي وبقلم كاتب قريب من البلاط؟!. المقال صريح في هدفه ويخلو من الالتفاف، والراشد بعد أن يؤكد على الشعبية الجارفة للسيسي التي تؤهله للفوز الحاسم فإنه يوجه طلقات تحذيرية واضحة له من الترشح باعتبار أن ذلك لن يكون في صالحه أما بقاؤه وزيرا للدفاع فهو أفضل له ولمصر. إليكم هذه فقرات من المقال حتى تعرفون كم كانت الرسالة شديدة الوضوح بل شديدة التخويف للسيسي من تقلد الرئاسة في مصر: " ترشحه وتوليه الرئاسة مغامرة خطيرة، فالحكم والسياسة في مصر ليست مهمة مضمونة". "أما لماذا السيسي يخطئ - أي في الترشح - فالسبب أنه أهم من أن يكون رئيسا للجمهورية، موقعه ودوره أن يكون ضابط الإيقاع السياسي، وحارس الدستور الجديد، وحامي النظام. أما عندما ينزل إلى المنصب التنفيذي يصبح جزءا من المشكلة، ولن يكون هناك من يرعى الانتقال التاريخي ويدافع عنه، كما فعل منذ شهر يوليو الماضي ". "نزول الفريق السيسي من رعاية الرئاسة إلى الرئاسة نفسها ستضعه في مرمى المشكلات المتوقعة للسنوات الأربع الصعبة المقبلة". "على الفريق السيسي أن يقبل بحقيقة أنه قد يضطر إلى الاستقالة قبل نهاية السنوات الأربع المقبلة إن بلغت الاعتراضات درجة الغليان، وسيسلم الحكم مضطرا". انتهت الاقتباسات ونسأل: أليس هذان موقفين لافتين من الرجل الثاني في الحكم بالإمارات، ومن كاتب سعودي يعتبر من أبرز الأقلام الموثوق فيها للتعبير عن السياسة السعودية وبث رسائل لمن يعنيه الأمر؟. وهل يمكن تفسير الرسالتين بأنهما توجهان " فيتو " مزدوجا للسيسي حتى لا يترشح؟!. إذن، من تريده العاصمتان رئيسا لمصر؟!. أتفق مع ما سبق وقاله الكاتب البديع جمال سلطان رئيس تحرير هذه الصحيفة بأن المؤشرات تقول إنهما - وبالذات الإمارات - مع أحمد شفيق المرشح الرئاسي السابق لأنه سيكون رئيسا تحت السيطرة، وقد استثمرت فيه الإمارات كثيرا منذ غادر مصر إلى دبي بعد خسارته الانتخابات أمام مرسي بأيام قلائل وهو مازال مقيما فيها حتى اليوم ولم يعد لمصر رغم عزل مرسي وزوال الموانع القضائية المتعلقة به ، وهذا أمر مستغرب ومثير للتساؤلات. من دبي شارك شفيق في تنفيذ خطة إسقاط مرسي وحكمه وجماعته تمهيدا للإطاحة بهم وهو ما تم في 3 يوليو، والرهان عليه لأنه سيكون رئيسا مطيعا مطواعا في أيدي البلدين الخليجيين، أما السيسي ورغم كونه مدعوما من البلدين أيضا إلا أنهما ربما تستشعران أنه لن يكون رجلهما في الرئاسة استنادا إلى شعبيته في مصر التي تجعله محميا ومسنودا ويستطيع أن يتخذ من السياسات والقرارات والتوجهات المستقلة التي لا تجعله ولا تجعل مصر رهينة لأحد في الإقليم أو خارجه. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.