ما يحدث في بر مصر منذ 3 يوليو وإلى الآن مرورًا بجريمة فض اعتصامات سلمية في رابعة والنهضة وحتى قانون التظاهر أو بالأحرى قانون منع التظاهر، ثم الأمر الإداري الصادر عن مجلس الوزراء والذي ألقاه وزير التعليم (للأسف وهو من كنّا نحسن الظن به) باعتبار جماعة الإخوان المسلمين تنظيما إرهابيا، هو أمر: خارج حدود السياسة. وخارج حدود الصراع على السلطة. وخارج حدود عملية نفي وإقصاء الخصوم السياسيين. وخارج ترتيب المستقبل للقادم من الزمن الغابر على ظهر جواد أسود، يلبس نظارته السوداء، وبيديه سيف، وفي الأخرى ساعة أوميجا. نحن في بر مصر أمام مأساة لا تقاس بالمعايير السياسية، ولا حتى بالاجتماعية، إنما تقاس بالآثار المترتبة على تكريس عمليتي: فصل وتمييز عنصريتين لدرجة ترتفع فيها بعض اللافتات في بعض المدن المصرية بإمهال الإخوان حتى وقت محدد لترك المدينة، أو بعمليات إجرامية تستهدف بيوت ومحال من يشك أنهم إخوان. نحن أمام جريمة منظمة تشارك فيها السلطة الحاكمة بالسكوت، وفي هذه الحالة السكوت علامة الرضى. وتزيد العملية إجرامًا عندما تقدم برامج الخراب مبررات ذلك الإجرام بأنه غضب الشعب من الإخوان. ما يحدث في بر مصر عملية إجرامية لا تتعلق بالعمل السياسي من قريب ولا من بعيد، هي عملية تستهدف نشر الكراهية وسيادة نمط انتقامي يقدم عليه باحترافية شديدة بلطجية ومسجلو خطر يسميهم إعلام العار مواطنون شرفاء وأهالي. ما يحدث في بر مصر لن تظهر آثاره إلا بعد سنين طويلة تختزن في العقل الجمعي عمليات الإقصاء والإلغاء والنفي لكل من يظهر معارضة وليس فقط الوقوف في وجه سلطة طاغية لا تريد أن تتوقف عن سفك الدماء، ولا تكريس المقولة اللعينة: انتوا شعب واحنا شعب. ولا عن نزع الإنسانية عن المعارضين لمجرد أنهم عارضوا، حتى لو لم يكونوا إخوانا. ما يحدث في بر مصر ليس من السياسة في شيء، والسياسة منه براء. السياسة تقديم حلول ومخارج، ومفاوضات، وتنازلات متبادلة، والتقاء في منتصف الطريق، وعدم نفي الخصوم من ساحة العمل العام: سياسيًا واجتماعيًا. أما القتل والسحل والاضطهاد والسجن وتلفيق التهم وكيل القضايا واضطرار الناس قسرا للخروج من بلادهم -ولو بطرق غير شرعية معرضين أنفسهم للخطر- فهذه ليست سياسة. هذه ليست دولة، هذه غابة يحكمها ذئاب، ويطبل لهم مجرمون، طبلوا لكل العصور ولكل الحكام، وعندما يقع هؤلاء الحكام الجدد (عن قريب وأقرب مما يتصورون) سيقف من كان يطبل لهم اليوم يطالب بتوقيع أقصى العقوبات عليهم. هذه سنّة الله، وهذه قوانين الحياة. وسنن الله غلاّبة، والقوانين ثابتة ومضطرده وعامة. الأمر يحتاج إلى تفكير وإعادة نظر. ما يحدث في بر مصر ليس من السياسة في شيء، السياسة أنصاف الحلول وتسويات وعدم إخراج الخصم من ساحة التفاوض خالي الوفاض من أي مكاسب، وإلا فلماذا يحافظ على استمرار حالة التفاوض. لابد أن يكون لكل طرف مكسب يدفعه للاستمرار في العلمية من جهة، وللمحافظة عليها من جهة أخرى. أما ما يحدث فهي عمليات غبية لدفع الناس دفعا للعنف والسلاح، ما داموا سيموتون على كل حال، فليموتوا ميتة شريفة. هكذا بدأت الثورة السورية سلمية حتى النخاع، ثم لم يزل نظام بشار المجرم بها حتى دفعها دفعا للعنف والسلاح، وهو الملعب الذي يحسن اللعب عليه، وهي اللعبة التي يجديها، حتى صار في سوريا ما عرفه القاصي والداني. من صاحب المصلحة في دفع تيار عريض من الشعب المصري لأن يكفر بالسلمية ولا يرى إلا حمل السلاح بديلا لإحداث أي تغيير مجتمعي. تمشي في مظاهرة تسجن خمس سنين، تقودها تعدم. إعدام بإعدام فليقاوم ما وسعته المقاومة، وليدافع عن نفسه ما وسعه الدفاع؟ من المسؤول عن جريمة دفع مواطنين أبرياء لطريق العنف والسلاح والدم؟ أتصور أن هناك قصد وعمد في هذه الجريمة، وأن الأمر ليس مجرد أخطاء في إدارة الدولة، أو سوء إدراك للواقع، أو جهل مطبق بتقدير الأمور. ما يحدث في بر مصر هو قمار محرم، وليس مجرد رهان فاشل على دفع الناس للعنف، لأنهم إذا وصلوا لهذا الطريق فسيسهل اصطيادهم وسيسهل إحكام الخناق عليهم. ما يحدث في بر مصر هو جر الشعب كله لمحرقة وفتنة لن يعرف فيها القاتل فيم قَتَل، ولا المقتول فيم قُتِل. ما يحدث في بر مصر هو جريمة مكتملة الأركان عن عمد وقصد وسوء نية لإشعال البلد وليس مجرد تجريف للسياسة، وقصره على شعب معين، وفتح السجون للشعب الثاني. ما يحدث هو جريمة عمدية وليس إعادة هندسة المستقبل. أيها الأغبياء: لن يكون هناك مستقبل حتى تفكروا به، فضلا عن أن تهندسوه. أيها الأغبياء: لقد قربتم النار كثيرًا من برميل البارود، تظنون أنكم تتحكمون في المسافة بينهما. أنتم لا تعرفون قوانين الاشتعال. ولا تعرفون قوانين الانفجار. لقد أوشك برميل البارود على الاشتعال. وأوشك الشعب على الانفجار.