ملك البحرين يدعو لمؤتمر دولي للسلام بالشرق الأوسط    دفاع المتهم الأول فى رشوة الجمارك: "لم يتم ضبطه متلبسا"    بمشاركة مصر والسعودية.. 5 صور من التدريب البحري المشترك (الموج الأحمر- 7)    شعبة القصابين: توقعات بانخفاض أسعار اللحوم خلال الفترة المقبلة    قطع مياه الشرب عن 5 مناطق في أسوان 12 ساعة    العربية: مصر تواصل تكوين مخزون استراتيجي من النفط الخام بعشرات المليارات    زراعة النواب تطالب بوقف إهدار المال العام في جهاز تحسين الأراضي    الرياض تدين محاولة اغتيال رئيس الوزراء السلوفاكي    أوكرانيا تشن هجومًا جديدًا على مطار روسي عسكري في القرم    «تدخل في صلاحيات الأمير».. أمر بضبط وإحضار النائب الكويتي أنور الفكر    نجم دورتموند قبل نهائي دوري أبطال أوروبا: ريال مدريد الأفضل في العالم    ترتيب الدوري السعودي الإلكتروني للعبة ببجي موبايل    جامعة المنوفية تتقدم في تصنيف CWUR لعام 2024    موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات فلكيًا.. (أطول إجازة رسمية)    غدا.. إعادة عرض فيلم "زهايمر" احتفالا بميلاد الزعيم    "دار وسلامة".. قافلة طبية للكشف على المواطنين بقرية أولاد يحيى في سوهاج    معهد التغذية: نسيان شرب الماء يسبب الشعور بالتعب والإجهاد    نقابة العاملين الأكاديميين بجامعة كاليفورنيا تجيز إضرابا ردا على قمع احتجاجات غزة    بدء التعاقد على الوصلات المنزلية لمشروع صرف صحي «الكولا» بسوهاج    تداول 10 آلاف طن و585 شاحنة بضائع بموانئ البحر الأحمر    الدوري السعودي يستخدم "الغردقة" لجذب محمد صلاح.. ما التفاصيل؟    تراجع دور بيلينجهام في ريال مدريد بسبب مبابي    شوبير السبب.. كواليس إيقاف الحكم محمود عاشور من إدارة مباريات الدوري المصري    أمير عيد يؤجل انتحاره لإنقاذ جاره في «دواعي السفر»    «التربية والتعليم» تنظم فعاليات مسابقة المعلمة الفعالة    قرار قضائي جديد بشأن سائق أوبر المتهم بالاعتداء على سيدة التجمع    خلال 24 ساعة.. رفع 39 سيارة ودراجة نارية متهالكة من الميادين    «التخطيط»: 7.7 مليار جنيه استثمارات موجهة لمحافظة الدقهلية خلال 2023-2024    وفاه الشيخ السيد الصواف قارئ الإذاعة المصرية.. وأسرة الراحل: الدفن والعزاء بمسقط رأسه    "العربة" عرض مسرحي لفرقة القنطرة شرق بالإسماعيلية    رئيس جامعة المنيا يبحث مع الجانب الإيطالي تطوير معامل ترميم الآثار بالجامعة لخدمة الباحثين    لهذا السبب.. ياسمين عبد العزيز تتصدر تريند "جوجل"    جولة جديدة لأتوبيس الفن الجميل بمتحف الفن الإسلامي    «المشاط» تناقش مع «الأوروبي لإعادة الإعمار» آفاق الاستثمار الخاص ضمن برنامج «نُوَفّي»    الرئيس الصيني: موسكو وبكين تدعوان إلى «حل سياسي» في أوكرانيا    محافظ أسيوط يستقبل مساعد وزير الصحة للمشروعات ويتفقدان مستشفى بني محمديات بمركز أبنوب    «الصحة» تقدم 5 إرشادات مهمة للوقاية من الإصابة بالعدوى خلال فترة الحج 2024    الأحد.. عمر الشناوي ضيف عمرو الليثي في "واحد من الناس"    أعطيت أمي هدية ثمينة هل تحق لي بعد وفاتها؟.. أمين الفتوى يوضح    المشدد 6 سنوات لعامل ضبط بحوزته 72 لفافة هيروين في أسيوط    دون إصابات.. تفاصيل نشوب حريق داخل شقة في العجوزة    وزير الخارجية اليمني: هجمات الحوثيين لم تضر سوى باليمن وشعبه وأشقائهم العرب    «الداخلية»: ضبط 13 ألف قضية سرقة تيار كهربائي خلال 24 ساعة    "الرعاية الصحية": حل 100% من شكاوى المنتفعين لأول مرة    كولر يحاضر لاعبى الأهلي قبل خوض المران الأول فى تونس    «الأمن الاقتصادي»: ضبط 13166 قضية سرقة تيار كهربائي ومخالفة لشروط التعاقد    صدام جديد مع ليفربول؟.. مفاجأة بشأن انضمام محمد صلاح لمعسكر منتخب مصر    محافظ أسيوط يستقبل مساعد وزير الصحة ويتفقدان مستشفى بني محمديات بأبنوب    مد فترة التقديم لوظائف القطار الكهربائي الخفيف.. اعرف آخر موعد    «الإفتاء» تحسم الجدل حول مشروعية المديح والابتهالات.. ماذا قالت؟    اليوم.. انطلاق الملتقى التوظيفي لزراعة عين شمس    حلم ليلة صيف.. بكرة هاييجي أحلى مهما كانت وحلة    توقعات الأبراج وحظك اليوم 16 مايو 2024: تحذيرات ل«الأسد» ومكاسب مالية ل«الحمل»    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 16-5-2024    بوتين يصل قاعة الشعب الكبرى في بكين استعدادا للقاء الرئيس الصيني    تنظيم 50 أمسية دينية في المساجد الكبرى بشمال سيناء    نجمة أراب أيدول برواس حسين تُعلن إصابتها بالسرطان    وزير الرياضة يطلب هذا الأمر من الجماهير بعد قرار العودة للمباريات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحصان الأفغاني الجامح [2من2]
نشر في المصريون يوم 08 - 11 - 2010


(1) الصراع الإمبريالي بين الروس والبريطانيين:
نحن الآن من حيث الزمن فى ثلاثينيات القرن التاسع عشر ومسرح الأحداث هو أفغانستان والهند البريطانية.. وقد تسارع وقع الصراع .. وتصاعدت المناورات الإمبريالية بين روسيا القيصرية وبريطانيا في المنطقة، خصوصا عندما شجعت روسيا محمد شاه على محاصرة هيرات والاستيلاء عليها.. وهنا قدّر الإنجليز أن هذه ثغرة خطيرة قد ينفذ الروس منها إلى الهند، فأسرعوا بعقد تحالفات مع حُكَّام هيرات وكابول وقندهار، وأرسلوا إلى كابول بعثة بقيادة الكابتن "ألكسندر بيرنز" سنة 1837م فرحب به دوست محمد الذي كان يطمع في مساعدة الإنجليز لإستعادة بيشاور (فقد كانت جزءا من أفغانستان)، ولكن بيرنز لم يمنحه تأكيداً بهذا الخصوص، فلكل شيئ وقت وله ثمن..! فلما ظهر المبعوث الروسي في كابول أسرع الإنجليز بالرحيل إلى الهند، فقد اعتبروا ظهور الروس في كابول دليلاً على إصرارهم لمد نفوذهم إلى أفغانستان .. لذلك أمر لورد أوكلاند الحاكم العام البريطاني للهند بغزو شامل لأفغانستان، وهكذا بدأت الحرب ...
قاوم الأفغان مقاومة عنيدة، وخاض البريطانيون معارك عنيفة تمكنوا بعدها من دخول قندهار وكابول، وكانوا قد جاءوا معهم بعميلهم شاه شوجا فنصّبوه ملكاً على أفغانستان.. وتمكن دوست محمد من الهرب إلى بخارى ثم عاد سنة 1840 في محاولة لدخول كابول فهُزم في معركة باروان ورجع يائساً .
لم تستقر الأمور طويلاً للإنجليز في أفغانستان، فالأفغان- كما سبق أن ذكرت - لا يحتملون احتلالاً أجنبياً ولا ملكاً مفروضاً عليهم حتى لو كان من بنى جلدتهم، ومن ثم نشبت الثورات في أنحاء أفغانستان ضد الإنجليز وضد عميلهم شاه شوجا، وأدرك الإنجليز أن وجودهم في هذه البلاد مع شاه شوجا قد أصبح مستحيلاً.. فذهبوا يناقشون الأمر مع أكبر خان (ابن محمد دوست) ولكن احتدت المناقشة بين الأفغان وبين المبعوث البريطاني سير "وليام هاي ماكناتن" لتعاليه عليهم فقتلوه، فازدادت الأمور سوءاً وأصبح الانسحاب البريطاني من أفغانستان هو خيارهم الوحيد.
(2) شاه شوجا: قصة شاه شوجا مع الإنجليز نموذج لواقعة تكررت في التاريخ الأفغاني، عندما سعت قوى أجنبية لإيجاد قدم لها في أفغانستان من خلال حاكم عميل فانتهت دائماً بكارثة أو بفشل ذريع.. و أقرب نموذج معاصرحكومة كرازاي التي زرعتها الولايات المتحدة في كابول..
على عكس محمد دوست الذي عُرف ببساطته وتواضعه كان شاه شوجا منغمسًا فى حياة الترف والزهو وينفق على ملذاته بسرف كبير، جمع ثروة من المنح البريطانية بلغت مائتي ألف جنيه إسترليني، وكان هذا مبلغا هائلا فى وقته.. ومع ذلك كان دائم الشكوى من الفقر طالباً من أصدقائه الإنجليز أن يمدوه بمزيد من المال.. وصفه المؤرخ البريطاني "إم إي. ياب" في كتابه "إستراتيجيات الهند البريطانية فقال: "كان شاه شوجا يشعر بأهميته الشخصية شعوراً مبالغاً فيه حتى أنه كان يصف نفسه عندما يتحدث إلى الآخرين بعبارة يكثر من ترديدها وهي (أنا المبارك) [عجيب أنه لم يكتفِ بوصف نفسه مبارك فقط بل المبارك.. يا له من طاغوت...!]، لم يكن ينقصه الذكاء ولكنه كان سياسياً فاشلاً، وكان هو وحاشيته موضع احتقار وسخرية من أصدقائه الساسة الإنجليز عندما يتحدثون عنه.. وهل يتوقع أحد من حاكم خسيس باع وطنه للأجنبي معاملة أفضل...؟!
تفشت الاضطرابات والثورات في عهده فشملت كل مناطق أفغانستان، كانت تبدأ عادة باضطرابات محلية بين القبائل المتنافسة ولكنها سرعان ما تتبلور وتتجه ضد قبائل السودوزاي الذين ينتمي إليهم شاه شوجا.
وهنا أيضا درْسٌ أفغاني آخر يتكرر في تاريخ أفغانستان، عندما تستأثر مجموعة عرقية بالسلطة حاجبةًّ عنها باقي الأعراق والقبائل، حيث يعتبرُ هذا فى التقاليد الأفغانية إنقلابا في التوازن القبلي.. وكان هذا سمة لعهد شاه شوجا، زاده سوءاً تدهور الأوضاع الاقتصادية والفساد السياسي، ووجود القوات الأجنبية الغازية التي تسببت في رفع أسعار المعيشة خمس مرات، بينما ظلت رواتب العاملين الوطنيين ثابتة.. ومن ثَمَّ أصبحت المقاومة المسلحة والهجوم على القوات الحكومية والأجنبية وإغلاق الطرق وإقامة الحواجز أمراً سائداً في كل مكان.. ومن ناحية أخرى كلما تصاعدت أعمال التمرد والشغب كلما اشتدت عمليات القمع من جانب السلطة.
وخوفاً من تفاقم الأمور وانفلات زمامها تدخلت القوات البريطانية بشكل سافر ضد المقاومة الشعبية، فزاد غضب الناس على شاه شوجا، وارتفعت صيحات علماء الدين تتهمه بأنه المسئول عن وجود قوات الكفرة فى البلاد، وأنه أصبح من الصعب على المسلمين فى هذه الأجواء أن يمارسوا حياتهم بمقتضى شريعتهم الإسلامية.
تيقّن البريطانيون أن شاه شوجا لا يمكن أن يستمر في حكمه بدون دعم أكبر من جانبهم، وكان هذا يقتضي تدفق القوات البريطانية والأموال إلى أفغانستان بلا نهاية، بذلك أصبحت أفغانستان عبئاً اقتصادياً وعسكرياً أكبر بكثير مما قدرت الإدارة الإنجليزية في الهند البريطانية...
* لاحظ نفس الخطأ التاريخي يرتكبه أوباما اليوم، وكان الظن به أنه سيوقف هذه المهزلة، ويبدا فى الانسحاب بعد استقراره فى البيت الأبيض، حيث يتمكّن من تنفيذ وعوده السابقة، ولكنها تحوّلت إلى سراب...!
(3) نُذُرُ الكارثة: لم يكد عام 1841م يوشك على نهايته حتى كان التدخل البريطاني في الحكومة الأفغانية بغير حدود، فقد أصبح كل شيء في يد الإنجليز.. واقترح خبراؤهم هناك أن الأمر يحتاج إلى تغيير شامل سواء في البناء السياسي أو الاجتماعي والاقتصادي، وهكذا تطورت الأوضاع بحيث أصبحت كل القوى السياسية والإدارية في قبضة "وليام هاي ماكناتن" وانتهت القيادة العسكرية إلى "مونتستيورات إلفنستون".. وكان هذا الأخير رجلاً عجوزاً مريضاً لا يعرف شيئاً عن أفغانستان، وكان متعجرفاً معتزاً بنفسه وبرأيه إلى درجة الغرور فلم يستمع لنصيحة أحد من زملائه الإنجليز، وكان هذا سبباً من الأسباب التي جعلت انسحاب القوات البريطانية من الأراضي الأفغانية أسوأ عملية انسحاب في تاريخ الجيش البريطاني.. إذ انتهت بكارثة مروعة.. [ما أشبه الرجل بالجنرال العنصريّ دافيد بيترايوس قائد قوات التحالف الذى عينه أوباما بعد تنحية الرجل الأعقل ماكلستر].
(4) الانسحاب الكارثيّ: في أواخر عام 1841م بلغت التعزيزات البريطانية إلى أفغانستان مداها، ومن ثم رفض لورد أوكلاند (الحاكم العام البريطاني في الهند) إرسال أي مزيد من التعزيزات المطلوبة للقوات البريطانية في أفغانستان، فقد كان معارضاً لاستمرار الوجود البريطاني هناك منذ جاءته أنباء الثورة الأفغانية في نوفمبر، بقيادة محمد أكبر الذي شرع في حصار القوات البريطانية في كابول، كما أن أوكلاند كان يرى أن إرسال مزيد من القوات خارج الهند يعرض أمن الهند نفسها للخطر.
يقول الكاتب البريطاني جون كاي: " عندما كنت تلميذا تعلمت في المدرسة عن الإمبراطورية البريطانية أن تاريخها كان قصة أعمال جسورة ورجال عظماء .. ولكن مع مرور الزمن، ومع البحث عرفت أيضاً أن مئات من الرجال الأغبياء وغير الأكفاء تسببوا في أزمات للإمبراطورية، وكانت كارثة الجيش البريطاني في أفغانستان دليلاً على وجود هؤلاء القادة الأغبياء من أمثال الجنرال إلْفِنْستون .. فقد خطط ونفّذ أتعس انسحاب في تاريخ الجيش البريطاني.."
كانت الخطة تتضمن الانسحاب أولاً من كابول إلى جلال آباد باعتبار الأخيرة مكانا أكثر أمنًًا للقوات، وذلك بضمان محمد أكبر، وكانت قوات إلفنستون تتألف من حوالي سبعة عشر ألف فرد: منهم 700 ضابط بريطاني، و3800 جندي هندي، وأكثر من 12 ألف من العاملين في خدمة المعسكرات، إلى جانب عدد من النساء البريطانيات.. فى ذلك الزمن كانت وسائل مواصلاتهم الجمال والخيول والبغال، وكان الانسحاب مقرّرًا أن يسير عبر ممرات جبلية وَعِِرَة ، زادها خطورة السقوط الكثيف للثلوج.. وقد اضطرت القوات للمبيت على هذه الثلوج، فتجمدت أرجل الكثير منهم وتخلّفوا عن الركب.. ثم بدأت هجمات رجال القبائل الجبلية تتوالى على القوات المنسحبة، وبدأ الضحايا يتساقطون بالعشرات ثم بالمئات...
لم يبقى من الإثنى عشر ألف عامل في يوم 10 يناير سوى أربعة آلاف فقط، وبقي من الجنود 750 جندياً، واعتذر محمد أكبر الذي كان يسير خلف الحملة لإلفنستون لأنه غير قادر على كبح جماح القبائل، وفي يوم 12 يناير لم يبق مع إلفنستون سوى مائتا جندي وألفان من العاملين في المعسكر لحماية قائدهم.
وفي ضوء القمر من ليلة اليوم نفسه نزل الأفغان عليهم من قمم الجبال بسكاكينهم وأجهزوا عليهم فيما عدا قلّة أفلتت من الموت تحت جنح الظلام، كان أحدهم الدكتور برايدون طبيب القوة العسكرية.. وعاد محمد أكبر إلى كابول ومعه قائد القوات الجنرال إلفنستون وبعض حاشيته.غير أنه (مع التطورالسريع للأحداث) لم يبق من القِلّة التى أفلتت من الموت فى أول الأمر سوى رجل واحد هو الدكتور برايدون ، تركه الأفغان حيا ليحكى قصته المأساوية، ويضع لمساته الدرامية على مصير الغزوة البريطانية الفاشلة فى أفغانستان.. وكيف تمكن الأفغان من تدميرها والقضاء على كل أفرادها . فلنستمع إلى تفاصيل قصة الدكتور برايدون كما يرويها..
(5) يقول الدكتور برايدون: "وجدت نفسي أسير وحدي نحو المجهول وقد فقدت ركوبتي، لكني عثرت في الطريق على جندي من الهنود وقد سقط جريحاً فمنحني بغلته وتمنى لي النجاة إلى جلال آباد"..
ويستمر الدكتور برايدون يروي قصة هروبه: فيقول: "كانت حصيلة من نجا في آخر يوم مجموعتين صغيرتين يتألفان من 14 راكباً و45 من جنود المشاة وعشرين ضابطاً .. استطاع المشاة الوصول إلى قرية (جانداماك) على بعد ثلاثين ميلاً من جلال آباد (أي مسيرة يوم واحد تقريباً) أما المجموعة الأخرى التي صحبتها فكانت راكبة استطاعت أن تصل إلى (فوت آباد)، على بعد خمسة عشر ميلاً فقط من جلال آباد .. وهناك قدّم لنا الأهالي الطعام والشراب وبدوْا متعاطفين مع حالتنا البائسة، ولكن ما لبثنا أن فوجئنا بفرسان الجبل يهبطون على القرية حيث قضوا على الجميع فيما عدا خمسة فقط كنت أحدهم، طارَدََنَا الفرسان حتى تمكنوا من اللحاق بأربعة منا فأجهزوا عليهم، وأفلتُّ منهم بأعجوبة يعلم الله كيف حدث هذا..!"
[ الحقيقة كما تبين فيما بعد أن الأفغان تركوه عمدا ليكون الشاهد الوحيد عند قادته على الهزيمة البريطانية المنكرة].
يتابع الدكتور برايدون قصته فيقول: " كنت وبغلتي مُثخَنيْن بالجراح ولكننا وصلنا إلى جلال آباد ونظرت خلفي فإذا بالمطاردين يختفون خلف الشعاب الجبلية".
لم ينج إذن من القوات المنسحبة سوى الطبيب برايدون ليروي إلى العالم قصة الانسحاب التعيس، وبقي الجنرال إلفنستون وحاشيته رهينة عند محمد أكبر في كابول.
(6)الانتقام للشرف الإمبراطوري: عندما وصلت أنباء الهزيمة المروعة إلى لندن رأى الإنجليز أنه لابد من تغطية هذه الهزيمة العسكرية بعملية تعيد لهم شيئاً من الكرامة المفقودة، ومن ثََمَّ عادت القوات البريطانية إلى كابول خلال شهور الصيف في حملة انتقامية...
كان دوق ولِِنْجتون بصفة خاصة أحرص الجميع على استعادة هيبة الإمبراطورية بحملة بربرية مشهودة على أفغانستان، جهزها واختار لها ضابطاً من أشرس عناصر القوات البريطانية.. وقد سلكت الحملة الطريق نفسه عبر الممرات التي سار فيها البريطانيون المنسحبون من كابول، فرأوا جماجم زملائهم بالمئات ملقاة على جانبيْ الطريق مما زاد من حدة غضبهم وتصميمهم على الانتقام.
اقتحمت الحملة قندهار وجلال آباد وغزنة وقاموا بتدميرها وأعملوا في سكانها القتل والتنكيل [لاحظ أن قتل المدنيين عادة إمبراطورية قديمة لا تزال أمريكا وحلفاؤها يمارسونها كل يوم فى الحرب الأفغانية والعراقية .. ثم يحاولون إنكارها، أوينتحلون لها أسبابا زائفة...!]
كانت الحملة الانتقامية تتألف من جيشين أحدهما بقيادة الجنرال بولوك والثاني بقيادة الجنرال نوت.. حيث دخل بولوك كابول في 15 سبتمبر فهرب محمد أكبر وسقطت المدينة بدون مقاومة، ووضع بولوك على العرش ابن صديقهم شاه شوجا ، ثم تحول يبحث عن الأسرى البريطانيين من قادة الحملة السابقة، و كان محمد أكبر قد حبسهم فى قلعة خارج كابول.
كُلف سير ريتشارد شيكسبير مع قوة من الفرسان مؤلفة من ستمائة فرد لإنقاذ الأسرى من سجنهم في الشمال، وعندما وصلت قوة الإنقاذ وجدوا الأسرى وقد اختلطت في عيونهم دموع الفرح بدموع الحزن: الفرح لنجاتهم من الأسر، والحزن على ما آل إليه مصير زملائهم.. ولكن لحسن حظ الجنرال إلفنستون أنه مات في أسره قبل وصول حملة الإنقاذ وبهذا نجا من المهانة وربما من المحاكمة العسكرية على مسئوليته عن الكارثة التي لحقت بالجيش البريطاني.
(7) تحاور البريطانيون في كيفية الانتقام من كابول، فاقترح بعضهم إحراق المدينة بأسرها، ولكن اقترح آخرون الاكتفاء بتدمير البازار (السوق) الكبير المسقوف، واستقر رأي بولوك على نسف البازار وتسويته بالأرض.. كان البازار الكبير تحفة معمارية أثرية بناها ملوك أفغانستان في عصور العز والازدهار..
ولأن مباني البازار كانت متينة احتاج المهندسون يومين لانجاز خطتهم حتى تم نسفه ، و هكذا اختفى الأثر المعماري التاريخي البديع، وهنا ترى بريطانيا المتحضرة تدمر واحداً من أبرز معالم الحضارة الأفغانية دون أن يرفع أحد – في ذلك الوقت – صوته بالاستنكار!..، ولا شجب أحد أعمال السلب والنهب والقتل والاغتصاب التي قام بها الجنود البريطانيون في مدينة كابول قبل أن يعودوا إلى الهند في 11 أكتوبر.. ولا يزالون إلى اليوم يفعلون...! إنها جرائم حرب لا تحدث عن طريق الخطأ كما يزعمون إنما يدبرون لها ويناقشونها على أعلى المستويات فى القيادات العسكرية [ ندمِّر كابول أم نكتفى بتدمير البازار...!!]
(8) لم تعد أفغانستان تمثل عند البريطانيين تلك الأهمية الإستراتيجية السابقة باعتبارها منطقة عازلة بين القوتين الإمبراطوريتين البريطانية والروسية، فقد مدّ البريطانيون حدود الهند البريطانية شمالاً وغرباً عبر الإندوس وعلى الجبال حتى مداخل ممر خيبر، وهي مواقع حصينة ضد أي غزو من الشمال.
ولكن ظلت القبائل الأفغانية على عهدها من قوة البأس والعنف لا تمل من شن غاراتها على الحدود، وهو الأمر الذي شكل العلاقات الأنجلو - أفغانية حتى يوم خروج بريطانيا من الهند وإنهاء احتلالها سنة 1946م.
تخلت بريطانيا عن فكرة احتلال أفغانستان ولكنها لم تفقد اهتمامها ولا توقفت عن محاولات السيطرة على الحكم في أفغانستان: إما بإقامة حكومة عميلة تنفذ أوامرها فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وعلاقة أفغانستان بالدول الأخرى خاصة روسيا، أو إجبار الحكومات الأفغانية المتمردة على الدخول في اتفاقات تلتزم فيها بالانصياع لتوجّهات السياسة البريطانية في المنطقة.
هذه المحاولات كلها بدون استثناء باءت بالفشل وانتهت إلى نتائج مأساوية، فكان الأفغان يقتلون الحاكم العميل أو يقتلون البعثة البريطانية التي تنصحه وتسانده، أو ينشب صراع مسلح بين الحاكم المتمرد والقوات البريطانية كما حدث في عهد شير علي خان (1878م)، وفي عهد أمان الله خان (1919م).
والمتتبع للتاريخ السياسي لأفغانستان خلال الفترة من سنة 1878 حتى سنة 1933، وهي فترة تبلغ خمسة وخمسين عاماً يجد مصداقاً لذلك، فقد انتهت حياة خمسة من الملوك الأفغان بطريقة مأساوية، إما بالقتل على يد الشعب الأفغاني، أو بالنفي والتشريد على يد القوات البريطانية .. في هذه الفترة أيضاً نشبت حرب أنجلوأفغانية مرتين، واندلعت ثورات داخلية ومقاومات مسلحة وأبيدت بعثة بريطانية بأكملها .. كل ذلك بسبب الكراهية المطلقة لأي تدخل أجنبي، أو حاكم مفروض على الشعب بقوة أجنبية، أو أي محاولة لتغيير ثقافي يُشتم منه رائحة أجنبية أو جنوح عن الشريعة الإسلامية كما فهمها الأفغان ومارسوها على مر العصور..لن أتطرّق إلى الحرب الأمريكية فى أفغانستان فلا تزال صفحته مفتوحة نقرؤها كل يوم، بل أنتقل إلى الصفحة الأخيرة كما أقرؤها...
(9) الغزو الإمريكي أهدافه ونتائجه: انتهت صفحة الإمبريالية البريطانية ولكن بقيت أفغانستان بتضاريسها وموقعها الاستراتيجيّ والثروات الخفية التى ترقد تحت ترابها هدفاًً لتحقيق الأطماع الإمبريالية ، نظر إليها السوفييت، وينظر إليها الروس الآن باعتبارها حاجزاً أمنياً هاماً، بالسيطرة عليه يمكن حماية جمهوريات آسيا الوسطى من العودة إلى الإسلام، أو التحالف مع دول إسلامية أخرى مثل إيران وباكستان والعراق للإفلات من قبضة الهيمنة الروسية المستغلة .. وتنظر إليها الإمبريالية الأمريكية الجديدة باعتبارها مفتاح آسيا الوسطى بنفطها وغازها وثرواتها الهائلة، ناهيك عن ثروات أفغانستان المخفية .. ولا أستثنى منها زراعة المخدرات التى كانت طالبان قد تمكنت من تقليصها وأوشكت على القضاء عليها، فلما جاء الأمريكيون إزدهرت مرة أخرى وأصبحت المخابرات الأمريكية أكبر مروّج لها فى العالم .. لأنها تدر أموالا طائلة ينفقون منها على عملياتهم القذرة دون حسيب أو رقيب من أجهزة الرقابة الرسمية...! [تنكر أمريكا أى علاقة لها بالمخدرات الأفغانية ولكنها تكذب كعادتها والأدلة على ذلك وعلى سوابق تجارتها فى مخدرات كولومبيا معروفة ومشهورة وموثّقة تحت عنوان: إيران جيت] ...
إن أفغانستان علاوة على كل هذا بالنسبة لأمريكا هى نقطة انطلاق ومراقبة على الصين وباكستان والهند، ومع الوجود العسكري الأمريكي المكثف في الخليج تُحكم "الكماشة" الأمريكية قبضتها القوية على بترول إيران والعراق.
ولكن يبدو أن أحداً لا يستفيد من دروس التاريخ الأفغاني، فقد عادت بريطانيا بعد هزيمتها التاريخية بمائة وستين عاماً لتغزو أفغانستان، لا كقوة إمبراطورية عظمى، ولكن مجرد ذيل ملحق للقوات الأمريكية، جاءا معاً بأحدث ما في ترسانتهما العسكرية من تكنولوجيا، تحت مظلة الحرب على الإرهاب، وما أبعد الأهداف الحقيقية للإستراتيجية الأمريكية عن الهدف المعلن الذي ما فتئت أمريكا تخدع به العالم..!
(10) أُلخّص النتائج التى انتهى إليها الغزو الأمريكي فى النِّقاط التالية:
أولا- لقد فشلت أمريكا عسكريا فشلا ذريعا فى القضاء على المقاومة الإسلامية رغم ضآلة قوتها وضعف أسلحتها مقارنة بقوات أمريكا والتحالف والمرتزقة وقوات كرازاى مجتمعة...
ثانيا- إنفضحت أمريكا أخلاقيا وتدهورت سمعتها فى العالم إلى الحضيض .. ولم يعد فى إمكانها التستر على جرائمها فى حرب أفغانستان والعراق خصوصا بعد نشر آلاف الوثائق التى تسرّبت إلى ويكيليكس من الجيش الأمريكيّ نفسه.. بواسطة ضباط أمريكيين استيقظت ضمائرهم وشعروا بخديعة حكومتهم التى أرسلتهم إلى حقول الموت لخدمة حفنة من أصحاب المصالح الرأسمالية الاحتكارية الجشعة..
ثالثا- انهارت أمريكا اقتصاديا وهى الآن تجرجر معها العالم إلى مصير مظلم .. ولقد نبّهت إلى ذلك فى مقالات سابقة...فقلت إن الأزمة المالية ليس لها حلول لا على المدى القريب ولا البعيد.. فأمريكا تلجأ إلى طبع أوراق مالية [دولارات] فيما يعرف اصطلاحَا باسم [ Quantitative Easing ] لا قيمة لها ولا سند، لا من ذهب ولا من إنتاج، أو بالأحرى مجرد إضافة أرقام إلكترونية فى خانة الحساب الدائن للحكومة فى البنك .. ولم يلجأ البنك الفدرالي إلى هذه الحيلة إلا بعد أن فشلت جميع الآليات التقليدية فى مواجهة الأزمة.. فلجأ إلى خلق نقود من الهواء الطلق.. تشترى بها أمريكا كما ذكرت فى مقالات سابقة (موارد وخدمات وسلع من بلاد الحمير)...! والذى لديه قدرة على قراءة الأوضاع المالية فى العالم.. فليقرأ بإمعان تطور قيمة الذهب الذى كان يسير فى توازٍ معقول مع الدولار حتى وصل إلى نقطة معينة فى الشهور الأخيرة فإذا بالدولار يهبط فى الرسم البيانى إلى القاع بينما يصعد الذهب إلى قمم عالية غير مسبوقة فى التاريخ الحديث، ولم يتزحزح نزولا عن موضعه قيد أنملة.. وهذه أكبر علامة على انهيار الدولار الأمريكي كمقدمة لانهيار اقتصادي أكيد.. إن امريكا تحيا على امتصاص ونهب ثروات العالم بلا مقابل.. وتأمل من خلال هذا السطو أن تسترجع عافيتها الاقتصادية.. وهى فى سعيها هذا تحطم تحت أقدامها مصالح شعوب وبلاد ضعيفة وتقذف بسكانها إلى مستنقعات الفقر والجوع والمرض..
رابعا: عداء أمريكا للإسلام والمسلمين أصبح أشد وأكثر ظهورا بعد هزائمها فى أفغانستان والعراق، وهزيمة عميلتها فى غزة والجنوب اللبناني.. فالذين يتصدّون لها فى هذه المواقع كلها أعداد قليلة من المقاتلين أحسنوا التنظيم والتدريب واستخدموا ما أتيح لهم من أسلحة بسيطة بأعلى كفاءة ممكنة .. فما بالك لو كانت هذه القوى دولا أوكيانات أكبر.. هنا تكمن مخاوف أمريكا من مستقبل مرعب.. لذلك لن تتصالح أمريكا ولن تتسامح مع أى شيء فيه إسلام أو مسلمون...!
خامسا: أمريكا لن تتصالح ولن تتسامح حتى مع المسلمين فى بلادها .. بل إنها تضيّق عليهم بإجراءات وقوانين جديدة آخذة فى التصاعد.. وهى تضحى بالحرية والديمقراطية والدستور حتى بالنسبة لمواطنيها.. وتتحول نحو الفاشية بخطى سريعة.. والأدلة على ذلك كثيرة.. وتتبعها على الطريق فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من دول العالم الغربي.. يتجهون جميعا نحو عصر من الفاشية الأكيدة. ضاربين عرض الحائط بكل تضحيات ونضال شعوبهم فى سبيل الحرية والديمقراطية.. ولست بحاجة إلى أن أذكر أن وراء هذا كله الشركات العملاقة والتكتلات الاحتكارية .. فهذا هو الوضع الأمثل لتحقيق مصالح هذه التكتلات الحاكمة.. ومن أراد أن يتأكد فإننى أحيله إلى مقالاتى السابقة فى هذا الموضوع. وأقرر أننى لست سعيدا بما يحدث للشعوب فى أمريكا ودول الغرب .. ولكنه الواقع .. فماذا تصنع مع الجشع الغبي الذى يدفع بالحكومات إلى الحضيض و يدفع العالم كله إلى الهاوية..؟!. لعلها حكمة لله، تخفى علينا غاياتها ومقاصدها .. له الحكم وله الأمر.. وهو على كل شيء قدير...
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.