قبل أن ينشُر موقع "ويكيليكس" نحو نصف مليون وثيقة عن الأوضاع في العراق منذ عام 2003، كانت بعض وسائل الإعلام سرّبت مضمون هذه الوثائق. وذهب البعض، ومنها swissinfo.ch إلى أكثر من ذلك بالكشف الميْداني عن جرائم القتْل، التي كانت تنفِّذها "فِرق الموت"، وبالتفصيل، وهو ما يدفع مُراقبين للتساؤل عن مصدَر هذه الوثائق والغرَض من نشْرها الآن. وإذ أكَّد الناشر أن الوثائق سريّة تتعلّق بمعلومات الاستخبارات الأمريكية عن الأحداث في العراق، فإن المؤكّد أيضا، كما هو واضح من طبيعة السِّجال القائم في العراق منذ سقوط نظام صدّام حسين، أن الحاجة لإحداث تغيير نوْعي في طبيعة القِوى السياسية التي تحكُم العراق حاليا، باتت أكثر إلحاحا.. وربَّما ليْس من العدل والإنصاف القول أن تلك الوثائق (وبعضهم يسمِّيها تقارير) جاءت بشيء جديد، عدا إثارتها عواصِف سياسية وتحريكها مياه راكِدة وطرحها أسئلة قد تبْقى لفترة - ولحين ظهور وثائق أخرى- حائرة دون إجابات. فالواقع أكّد أيضا أن نشر "الوثائق" لم يربِك كثيرا المشهَد السياسي العراقي، القلِق أصلا، ولم يخلق معادلات سياسية جديدة على الساحة ولم يُخف المستهدفين من نشرها. عراق عِلماني فريد! فالولاياتالمتحدة، التي أسقطت النظام السابق بمفردها (حتى وإن حدث تعاون شكلي مع المعارضة العراقية آنذاك) كانت تخطِّط لإيجاد نظام تُهيمن عليه الشيعة العِلمانيون، بمساعدة الأكراد (المضطهَدين في النظام السابق)، يكون نموْذجا لديمقراطية فريدة في الشرق الأوسط، كما تؤكِّد الكثير من المُعطيات وتصريحات جنرالات أمريكيين، شاركوا في العمليات العسكرية لاجتِياح العراق عام 2003. كما أن الولاياتالمتحدة، كما تؤكِّد تلك المُعطيات، أرادت أن تبْني العراق الجديد، لتُصبح البصرة فيه مثلا، منافِسة جدية لدُبي في الإمارات، ليس فقط في حركة الموانئ والنقل وتحريك التجارة العالمية عبْر مَرافقها الاقتصادية وحسب، بل حتى في إنشاء المراكز التجارية والمرافِق السياحية والبناء العمودي، الذي يعانِق السماء، في ظروف جيو سياسية وبيئية وبَشرية أكثر ملاءمة من غيرها في الدول المجاوِرة للعراق.. فماذا حصل؟ سيْطر الإسلاميون على الحُكم بشكل مباشر وكشفوا كل أوراقهم مرّة واحدة، ولم يكن مهِمّا عندهم أن يستعينوا ببعثيين سابقين، لمجرّد الإنتماء الطائفي والقبَلي الواحد، وبعضهم أعلن (مبكّرا جدا) عن إستراتيجيته "السرية"، التي كانت تتمثَّل في "التعاون" مع الولاياتالمتحدة لإسقاط صدّام، ومن ثَمَّ الإنقلاب عليها، عندما يعزِّز من قوته على الأرض. وكان ما حصل من تصفيات خطِرة، راح ضحيتها السيد محمد باقر الحكيم وعز الدين سليم وكثير من كوادِر الحركة الإسلامية الشيعية، المتمثلة تحديدا بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة الإسلامية بكل أطيافه. وظلّ المجلس بقيادة آل الحكيم، يتوارثونه وهُم يمثلون مرجعية دينية عريقة، ولم يفكِّروا يوما في أن تبقى المرجعية فوق الجميع أو أن ينسحِبوا من التدخّل المباشر في العملية السياسية، وبقي إسم المجلس، الذي أسَّسته إيران وأشرفت مُباشرة على اختيار أعضائه هناك، لم يتغيّر بما فيه من مضامين إسلامية وثورية، تحكي عن الهدف الغائي من وراء تأسيسه، إلى وقت متأخر جدّا، حيث غيَّر إسمه إلى المجلس الإسلامي الأعلى، ليبعث إشارات تطمين عن أهدافه... وصلت متأخّرة!... وقد يفسّر ذلك اهتمام وثائق "ويكي ليكس" على المجلس وقيادته، وإنْ بدرجة أقلّ من رئيس الوزراء المُنتهية ولايته نوري المالكي . وإذا كان المجلس غيَّر إسمه في مايو 2007، أي بعد أكثر من أربع سنوات على سقوط نظام صدّام، متخلِّيا في الظاهر عن هدف الثورة الإسلامية، وهو تشكيل حكومة إسلامية تابِعة أو مؤيِّدة لنظام ولاية الفقيه في إيران ومتحالِفة معها، وأدخل مصطلحات جديدة، مثل الديمقراطية والإنتخابات في برنامجه السياسي، ليعكِس ما وصفه "الوضْع المتغيّر في العراق"، فإن حزب الدعوة الإسلامية لم يُحدِث أي تغيير – حتى الآن - في برنامجه يتواءم مع ظروف المرحلة، وبقيت المرحلية التي يؤمن بها وتشكّل معْلَما بارزا في فِكره الحركي، تخنُقه، وربما هي التي دفعت إلى أن تركز "وثائق ويكيليكس" الأمريكية على زعيمه الحالي نوري المالكي . ولمّا كانت إقامة الدولة الإسلامية هي هدف إستراتيجي مُستقبلي تؤكِّده مرحلية العمل في حزب الدّعوة للوصول إلى الحكومة، فإن الدعوة لم تكشِف، حتى الآن، عن أيّ تغيير في نظام المرحلية (الفكرية والسياسية والجهادية والحكمية)، بل إنها تُسمّي الإلحاح الصادر عن فريق من الدُّعاة السابقين في هذا الشأن، "استِدراجا" للدّعوة إلى كشف برامجها الإستراتيجية في العمل المُستقبلي، ليتسنَّى لقِوى العالَم اتهامها بالأصولية ثم بالتطرف، فوضعها في خانة الإرهاب، ثم البدْء بالتصفية الجسدية لقادتها تحت طائلته. وذهب بعض مفكِّريها إلى الإعتراف عَلَنا في بعض الكتابات بأن الدّعوة سعَت لاقتناص فُرصتها في الحُكم، وهي إذن لن تفرِّط فيها، حتى الوصول إلى الهدف الأساسي، وهو إقامة الدولة الإسلامية، اللَّهُمّ إلا إذا شكَّكنا في نيات القائمين على الدّعوة حاليا، وأنهم يستغلُّون أفكار الحزب، لتحقيق أغراضهم في الوصول إلى السلطة والمال، تحت واجهة "الدعوة الإسلامية". توقيت سياسي! قد يتساءل البعض عن السَّبب في أن تُنشَر هذه "الوثائق"، وهي في مُعظمها بيانات صحفية، في هذا الوقت بالذات. وهنا بالطبع، لابُد من الإشارة إلى صِلتها بالواقع العراقي المَهْزوز وفشل سياسة "تدوير" السلطة المُتخفِّية بعباءَة مهلّلة للديمقراطية الجديدة، وأيضا إلى التنافس الانتخابي في الولاياتالمتحدة، التي أخذت تُخطِّط بشكل أفضل في إستراتيجيتها تُجاه إيران. فقد سعَت الولاياتالمتحدة منذ إندلاع أزمة الانتخابات الرئاسية، المُستمِرّة في إيران في يونيو 2009، إلى اللَّعب على أكثر من مِحوَر، لتغيير نظام الجمهورية الإسلامية أو محاصَرته والضّغط عليه. وأخذت ترسل إشارات جدِيّة ومُخيفة عن نيَّتها هذه، عبْر تشديد العقوبات والتخطيط لإيجاد أزمة اقتصادية حادّة داخل إيران، من شأنها أن تُحدِث التَّغيير المطلوب، إنْ في السلوك الإيراني تُجاه الكثير من القضايا الإقليمية والدولية أو حتى في التّحضير لضرب إيران عسكَريا. حتى مع الإعلان المُستَمر عن الرّغبة في إجراء حِوار مع طهران حول الملف النووي، فإن ذلك يأتي مُتواصِلا مع فرْض عقوبات جديدة أو مع حضِّ أطرف أوروبية، وحتى روسيا، على تشديد الخِناق الإقتصادي عليها، رغْم أن الكثيرين داخل المؤسسة الحاكمة، يتلقّى دائما الرسالة من البوابة الخلفِية، ليُروِّج إلى اعتقاد خاطِئ يزعم أن "الرغبة في الحوار تعني فشَل العقوبات".. إن أهمية الوثائق تكمُن في أن الإعلان عنها في هذا الوقت وقُرب الموقِع العالمي المتخصِّص في نشر "الأرقام والإحصاءات" من جهات أمريكية معروفة، يجعلها تُصنَّف ضِمن الوثائق الهامة، التي تحمل في مضمونها إدانة لطرف أمريكي وأحزاب عِراقية تعاونت مع الولاياتالمتحدة، مع أنها تقع في الأساس، في الخانة الإيرانية. وهي ترْمي إذن - حسبما يبدو - إلى تحقيق أهداف داخلية فيما يتعلَّق بالتنافس الإنتخابي الأمريكي، وتحاول في نفس الوقت أن تكون فيه مجسّات اختبار للتحضير لمرحلة مُقبلة، تَغيب فيها الوجوه التقليدية، إلى جانب كونها تشكِّل ضغطا على أطراف معروفة في العملية السياسية.. "فرق الموت" في العراق.. بين الحقيقة والواقع! تحت هذا العنوان، نشرت swissinfo.ch عنها في 21 مارس 2006، أن فِرق الموت ليْست ظاهرة عراقية وحسب، بل هي نشأت مع تأسيس "مغاوير الشرطة " في عهد الحكومة المؤقَّتة أثناء رئاسة "الشيعي" أياد علاوي للوزارة العراقية السابقة، وبمبادرةِ من وزير داخليته فلاح النقيب (السامرّائي)... وأوكلت قيادة المغاوير إلى الضابط، السني البعثي، عدنان ثابت (عمّ فلاح النقيب) في الإستخبارات العسكريةِ السابقِة، والذي سعى في السابق إلى تدبير انقلاب على نظام صدّام لحساب وكالة المخابرات المركزية. ونشرت swissinfo.ch في ذلك الوقت خارطة باسم القِوى والمنظمات، التي تدير فِرق الموت، وليست كلها مُرتبطة بجهة واحدة، إذ تكالب الكثيرون على نهْش المواطن العراقي بعد قتله وإلقاء جثَّته في الهواء الطّلق وأمام الجميع، ومنهم بالطبع القوات الأمريكية. وكان واضحا آنذاك أن الخطّ البياني لعمليات عناصر هذه الفِرق، خدَم بقوّة سياسة الاحتلال وضَمَن للأمريكيين، باستمرار، إمكانية التدخّل لفرْض إرادة الإحتلال على الأطراف المُقاطعة، خصوصا السُنّة العرب، وجعْلهم يعتقِدون أن أمنهم وسلامتهم هما بِيَد المُحتل، وعليهم أن يدخلوا إلى الخيمة الأمريكية لضمان بقائهم أحياء. وفيما قلّلت "وثائق ويكيليكس" من أهمية تورّط جِهات أخرى غيْر الأحزاب الشيعية في عمليات القتل يوم ذاك، بدا مؤكّدا في تلك الفترة، كما وثَّقت ذلك swissinfo.ch، أن الهدف من عمليات "فِرق الموت"، كان تضخيم الهُوّة بين السُنَّة والشيعة.. وكشف أيضا في تلك الأيام، كيف كانت القوات الأمريكية تعمد بطريقة غامِضة إلى قتل الصحفيين "العراقيين"، الذين كانوا يرفَعون أصواتهم بالحديث عن جرائم "فِرق الموت" في العراق، للدّلالة على الدّور المشْبوه، الذي لعِبته الإدارة الأمريكية الحاكِمة في العراق، بما رجّح فَرَضية أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ال "سي آي أي" وقفت وراء تلك الفِرق لنشْر الرُّعب في أوساط السُنّة وتهْيِئَتهم لحرب طائفية من العِيار الثقيل في العراق. ضارّة ونافعة! وهُنا، تجدر الإشارة إلى أن نشْر هذه الوثائق له صِلة - مثلما يرى مراقبون - بتعزيز الإيرانيين مؤخرا لتحالفهم مع سوريا، لتشكيل جبهة إيرانية – سورية – لبنانية، تتضمّن أعدادا من المُقاتلين في العراق أيضا، وهذا تطور لا يسْتجيب بطبيعة الحال لمصالح الولاياتالمتحدة. ويذهب البعض إلى أنه قد يكون من الأفْضل، التَّعامل حاليا مع هذه الوثائق على أنها مجسّات لقِياس المَزاج الشعبي وردّة أفعال الأطراف، المعْنية عراقيا، في خِضمِّ الجهود المستمرة منذ ثمانية أشهر تقريبا نحْو تشكيل حكومة عراقية جديدة، طال مخاضها كثيرا. ويمكن القول أيضا أن هذه الوثائق واحدة من أساليب "التحريض" ضدّ الأحزاب الشيعية والكُردية، للتحضير لإيجاد تغيير في المستقبل المنظور في المشهد السياسي وفي خارطة التحالفات، وإيجاد بديل قادِم "يكفِّر" بهذه الشخصيات، التي أصبح مُعظمها يؤمن بديمقراطية "مقنَّنة" وعلى مقاسها هي فقط في العهْد العراقي الجديد. أما داخليا، فلم يحظَ نشْر "الوثائق" باهتِمام الشارع العراقي، الذي تعامَل معها بالصدِّ الذاتي أو ما يُمكن وصفها بمناعة من حرب طائفية أو أهلية، خصوصا وأن العراقيين يعرفون بتفاصيل أكثر بكثير ممّا نشَره موقع "ويكي ليكس"، عمّا جرى ويجري في بلدهم، ويروْن أن إثارة أيّ موضوع في وقت معيَّن، يرتبِط بظروف سياسية، وأن نشْر هذه "الوثائق"، من شأنه أن يزيد من مُشكلات البلد ولن يساهِم بالتالي في حلِّها. المصدر: سويس انفو