الفترات التي تشهد حالة من الصراع الداخلي في أي مجتمع، هي الفترات التي تشهد نموا واضحا للتعصب، يفوق الوضع الطبيعي. ولأن كل مجتمع بداخله قدر من التنوع الداخلي، لذا عندما يظهر التعصب كظاهرة، يحدث بين الفئات المتنوعة أو المختلفة داخل المجتمع، أيا كان سبب الاختلاف بين هذه الفئات. والمجتمع الذي يمر بأزمة حادة، تمس هويته، يظهر فيه التعصب، خاصة إذا كانت أزمة مجتمعية شاملة. هناك بالطبع مجتمعات لها توجهات عنصرية، مثل المجتمعات التي ترتبط بهوية قومية ضيقة، أو هوية قومية عنصرية، حيث يظهر فيها التعصب تجاه الآخر المختلف قوميا، حتى في فترات التقدم، وليس فقط في حالة ظهور مشكلات حياتية. ولكن حالة المجتمع المصري تختلف عن هذا، فقد بني على الهوية الحضارية التي تستوعب كل من ينتمي لها، ولم يبنى على هوية قومية عنصرية. لذا أصبح التعايش في المجتمع المصري مرتبطا بالانتماء لهوية واحدة وحضارة واحدة، أي مرتبطا بالانتماء لمنظومة قيم واحدة، ونمط حياة مشترك. فتتحقق قيم العيش المشترك، بقدر ما يستطيع المجتمع التعبير عن نفسه، وتحقيق مرجعيته في حياته، حيث تنظم العلاقات داخل المجتمع، بقدر فاعلية القيم العليا المنظمة لحياته. ولكن عندما مر المجتمع المصري بأزمة حادة، بعد هزيمة عام 1967، وبدأ المجتمع في البحث عن هويته من جديد بعد أن ابتعد عنها، بدأ المجتمع المصري في دخول مرحلة أزمة الهوية، بسبب غياب منظومة القيم الحاكمة للمجتمع، نتيجة لنشر العلمانية، وتأسيس الدولة على أسس علمانية. ومع الهزيمة وانهيار المشروع القومي الناصري، دخل المجتمع المصري في حالة أزمة مجتمعية شاملة، تظهر ملامحها في تردي كل أحوال المجتمع، وتراجع القيم الحاكمة له. ليس من الصعب ملاحظة نمو التعصب منذ سبعينات القرن العشرين، بصورة تزيد عن الوضع العادي، لتمثل ظاهرة تؤثر على المجتمع وتحدد مستقبله. فمع انهيار المرجعية الحضارية للمجتمع، وبداية البحث عن الهوية من جديد، بدأ المجتمع يشهد حالة تفكك داخلي، وفي نفس الوقت بدأ يشهد حالة تعصب شعبي متزايد. وقد ظهر هذا التعصب بين المسلم والمسيحي، لأن الاختلاف في الدين مثل التنوع الرئيس في المجتمع المصري، فأصبح الاختلاف في الدين هو الذي يقسم المجتمع إلى أهم مكوناته الأساسية، ولهذا ظهر التعصب في مجال الاختلاف الديني. وككل مجتمع يمر بأزمة وتظهر درجة من التعصب المتزايد داخله، يصبح التعصب مرتبطا بمدى قدرة المجتمع على اكتشاف هويته المشتركة من جديد، حتى يبنى منظومة قيمه من جديد، ويعيد تماسك المجتمع، حتى يستطيع الخروج من أزمته وبناء مستقبل أفضل. فكل مجتمع يتحرك نحو تحقيق تماسكه وتقدمه ويحاول الخروج من أي أزمة يمر بها، حتى ينقذ نفسه من حالة التفكك التي تعرضه للمخاطر. ولكن في مراحل معينة يفقد المجتمع قدرته على إعادة بناء ذاته، بسبب ضعف قدراته على الحركة. وفي المجتمع المصري، شهدنا حالة تراجع لقدرات المجتمع ودور مؤسساته الاجتماعية، بسبب تزايد حالة الاستبداد الشامل التي يفرضها النظام الحاكم على المجتمع، لدرجة جعلت معظم مؤسسات المجتمع تحت السيطرة المباشرة للنظام الحاكم، مما أفقدها القدرة على الفعل الإيجابي. ومع غياب دور المؤسسات الاجتماعية، غاب أيضا دور الدولة، والتي ظلت مختطفة من قبل النخب الحاكمة، تسيرها حسبما تريد، وفي الاتجاه الذي يخدم مصالحها، فلم تعد الدولة ممثلة لحالة المجتمع، ولم تعد كذلك قادرة على بناء المجتمع، والتعبير عن هويته ومرجعيته، وتحقيق أسسه المشتركة التي يبنى عليها، والتي تمثل نظامه العام. فالنظام السياسي المستبد لا يعبر عن المجتمع، لذا فقد المجتمع أداة من أهم أدوات توحده، والتي تتمثل في النظام السياسي الحاكم، عندما يكون معبرا عن قيم المجتمع، وعندما يعكس منظومة القيم الحضارية التي أسس المجتمع عليها. ومع غياب دور المؤسسات الاجتماعية، وغياب دور الدولة، ترك المجتمع لحركة الناس عامة، وحركة القوى الفاعلة فيه، من تيارات وحركات سياسية ودينية، وأصبحت هي الأكثر تأثيرا. والجماعة المسيحية مثلت تكوينا من التكوينات النشطة، كما مثلت الكنيسة مؤسسة من المؤسسات النشطة، والتي لم يفرض عليها سيطرة أمنية من النظام الحاكم. فكما كانت الحركة الإسلامية ممثلة لحالة النشاط داخل الجماعة المسلمة، هكذا كانت الكنيسة والحركات والمجموعات المسيحية ممثلة لحالة النشاط داخل الوسط المسيحي. وبهذا أصبح الكثير من التحولات الحادثة في المجتمع المصري، رهنا بدور المؤسسات والحركات الدينية الفاعلة. وفي كل المراحل التي تتسم بدرجة أكبر من التعصب، تعاني الفئات الأقل عددا، أكثر من غيرها. حيث أن التعصب يوسع الفجوة بين مكونات المجتمع، فتشعر الفئات قليلة العدد بدرجة من الخوف، خاصة إذا كان كل محيطها يمثل جماعة واحدة متماسكة أو متجانسة، مثل حالة الجماعة المسلمة في المجتمع المصري. فتصنيف المجتمع المصري إلى جماعة مسيحية وجماعة مسلمة، يجعل المجتمع موزعا بين أغلبية واسعة ومتجانسة، وأقلية واحدة مختلفة دينيا. لذا يمثل انتشار التعصب تهديدا للجماعة الأقل عددا، أيا كانت نتائج التعصب واقعيا، حيث يعد مجرد انتشار التعصب، بمثابة تهديد كامن، يثير مخاوف الجماعة الأقل عددا. وفي كل الأحوال فإن التعصب انتشر في المجتمع المصري، في الجماعة المسيحية والجماعة المسلمة على السواء، ولكن تأثير تعصب الجماعة الأكثر عددا على الجماعة الأقل عددا يكون أكبر، حيث أن تأثير تعصب الجماعة الأقل عددا عمليا على الجماعة الأكثر عددا، يكون محدودا. ولكن هذا الوضع يوقع الجماعة الأقل عددا في قناعة تضر بها كثيرا. حيث تتصور الجماعة الأقل عددا، أن تعصبها غير ظاهر، وغير مؤثر على الجماعة الأكثر عددا، مما يجعلها أحيانا تتمادى في التعصب إلى حد خطير. وهذا ما حدث للجماعة المسيحية في مصر، حيث زاد التعصب داخلها على حد كبير، وأصبح ينمو بدون أي كابح، وأصبحت القوى الفاعلة داخل الجماعة المسيحية، ومنها الكنيسة، تنمي هذا الشعور بداخلها. وفي بعض الأوقات، نجد التعصب ينمو وكأنه رد فعل، وفي أوقات أخرى ينمو التعصب وكأنه نوع من الحماية تجاه الشعور بالتهديد، ولكن الملاحظ يكتشف أن التعصب ينمو في كل الأحوال، أيا كانت المبررات، مما يجعل الجماعة الأقل عددا، والتي تتضرر من انتشار حالة التعصب، تشهد نموا واسعا للتعصب بداخلها. وتسيطر فكرة أن تعصب الجماعة القليلة العدد غير مؤثر أو غير ظاهر، والحقيقة أنه يكون فاعلا ومؤثرا، ويرسل إلى جماعة الأكثرية إشارات خاطئة، حيث ينمي لديها التعصب تجاه الجماعة الأقل عددا، ويصبح التعصب متبادلا، وينمو في كل اتجاه، لأن بيئة التعصب تنمي التعصب من جديد، وكل انتشار للتعصب يعمق وجوده في المجتمع. والتعصب يقوم على تصور سلبي عن الآخر، فترى الآخر بصورة سلبية، فيصبح موقفك منه سلبيا أيضا. وهذا ما يحدث داخل الجماعة المسيحية، وداخل الكنيسة أيضا، حيث تنمو صورة سلبية عن كل من هو عربي ومسلم، بصورة تجعل لدى الجماعة المسيحية صورة سلبية عن الجماعة المسلمة، تعوق أي تعاون وتعايش طبيعي بين الجميع. وتلك الصورة تؤثر على حالة المجتمع، وتؤثر على موقف الجماعة المسلمة، ولا يمكن وضعها في إطار رد الفعل الذي يزول بزوال الفعل، لأن التعصب هو موقف ينبع من داخل أي جماعة، عندما ترى أن هويتها تختلف عن الآخرين. ويعد التعصب في كل الأحوال، فعل حتى إذا كان في جانب منه رد فعل. ولن يزول التعصب إلا بفعل مغاير له ومضاد له. وإلى المقال القادم..