لا ندري ما إذا كانت محنة مصر الرئيسية هي في أزمة "نقل السلطة" وسؤال ما بعد الرئيس مبارك أم هي في انهيار منظومة القيم بصفة عامة؟! في تقديري.. أنهما أزمتان متلازمتان.. وإن كانت الأخيرة هي الأخطر، على أساس أن التجربة السياسية المصرية، تنقل لنا حقيقة أن مصر تعاقب على حكمها الشامي والمغربي .. الحر والمملوكي.. غير أن المجتمع في النهاية كان ينتصر في كل معاركه سواء مع السلطة حال انحرافها في الداخل أو مع الاحتلال من الخارج.. طالما ظلت منظومة القيم قوية وعفية وحاضرة في توجيه مساره العام. مشكلة مصر الحقيقية.. هنا .. ربما ترجع في جانب منها إلى لحظة تاريخية غير مسبوقة، تزامن عندها انهيار السلطة مع سلسلة انهيارات متتابعة لمنظومة القيم في المجتمع المصري، والتي طالت حتى "المناضلين" ضد السلطة ذاتها! على نحو قد يوحي بأن النظام والمجتمع .. كلاهما هو الابن الشرعي للآخر! قد يعتقد البعض على سبيل المثال أن أزمة الزميل إبراهيم عيسى مع ملاك "الدستور" الجدد، هي خارج هذا السياق المجتمعي أو الرسمي، تأسيسا على سيرتها الصحفية بشأن الرئيس مبارك وعائلته.. وهو اعتقاد لا ينقل حقيقة وجوهر الأزمة، بسبب الشوشرة الإعلامية الواسعة التي حركها رئيس التحرير المُقال، بفضل تحوله إلى قوة مالية قادرة على الصمود والمشاغبة ومركز لشبكة واسعة من المصالح التي تضررت بخروجه من الصحيفة وما ترتب عليه من أضرار لحقت بكثير ممن استفادوا من الدستور ماليا وإعلاميا. أنا هنا لن اتحدث عن "المحتوى" الصحفي، وما إذا كان معارضا أو مواليا أو قاتل بالوكالة عن أجنحة متصارعة داخل السلطة.. أنا هنا فقط أنقل طريقة إدارة الزميل رئيس التجرير لقرار إقالته إلى بؤرة الضوء.. إذ أنها عكست وإن كانت مطمورة بحكم الشوشرة كما أسلفت تأصل ثقافة "التأبيد" على الكراسي في عقلية النخبة المصرية، بعد أن ارتبط "الكرسي" بمصالح مالية ونفوذ سياسي ومهني ومجتمعي .. التخلي عنه يعني الإيواء إلى الظل والتهميش وفقدان البقرة الحلوب التي كانت تدر على صاحبها المن والسلوى. إذا افترضنا حسن النية وطهارة واستقامة المقصد.. فإن دستور ابراهيم عيسى، خاضت تجاربها مثلا طلبا ل"تداول السلطة".. ومناهضة لمبدأ "التأبيد".. غير أن ابراهيم عيسى نفسه، عندما قرر ملاك صحيفته اقالته ل"تداول السلطة" داخل الصحيفة.. ولمناهضة" تأبيده" على مقعد رئاسة التحرير، أحالها الرجل إلى حرب ضروس واشعلها فتنا على الفضائيات والصحف، واستخدم فيها صحفيي الدستور الغلابة وقودا لحرائقة واسفلتا لتمرير مدرعاته وقواته المحمولة ارضا وجوا ومدفعيته الثقيلة صوب الصحيفة لهدها على من فيها! ابراهيم عيسى ليس وحده في هذا السياق.. بل باتت ثقافة "التأبيد" و"التوريث".. ثقافة ممتدة من رأس الدولة إلى قلبها وأطرافها.. وربما لم نستشعر بهذا الامتداد والانتشار لأن الجميع يعتبر نفسه ضدها فيما هو يستبطنها في عقله ووعيه ووجدانه، ولا تظهر تجلياتها إلا وقت المحكات والاختبارات الحقيقية. [email protected]