بينما كنت أتجول في أحد الموالد المنتشرة في ربوع المحروسة؛ وذلك حتى أسجل بعض الخواطر حول حالة شعبنا المسكين؛ حيث تجد الصورة واضحة وعارية وحقيقية، دون رتوش ودون تدخلات أو أصباغ أو تلميعات وتزييفات (الفوتوشوب)؛ فتجد البسطاء على سجيتهم، وتتخيل هذا الشعب وكأنه هارب من الواقع المر إلى حالة من الغيبوبة العقلية؛ بل والزمانية والمكانية!؟. فالموالد لا يرتادها العوام وفئات قاع المجتمع فقط؛ بل ينظمها ويدعو لها ويشجعها، ويسترزق منها فصيل مجتمعي كبير يضم كبار من النخبة المثقفة من أطباء ومهندسين ومستشارين كلهم يسترزقوا ويعيشوا في فيلم المولد المريح والمضمون والخالي من المشاكل والذي يرضى عنه الأمن والنظام!؟. الموالد ... ولعبة التوظيف السياسي!: وما أدهشني؛ هو أن هذه الموالد وصراعاتها حول زعاماتها، وانتخاباتها، بل ومرتاديها قد تم توظيفهم في لعبة السياسة؛ فأصبحوا بديلاً لجذب اهتمامات الناس، ولشغلهم عن الواقع السياسي والاقتصادي!. ولسحب سجادة الجماهير من مطالبي التغيير ومن فصائل المعارضة!. وكل دولة تجيد فن صناعة الموالد!؟. فكل دولة لها موالدها؛ حسب ظروفها؛ على هيئة مهرجانات فنية وثقافية، أو دورات كروية، أو ...!؟. وما أدهشني أكثر؛ هو أن الموالد خاصة الكبرى منها دخلت لعبة التوظيف السياسي الدولي؛ فلا يخلو مولد من وجود بعض السفراء الأجانب؛ خاصة أبناء العم سام!. الطفلة الضالة ... حالة إنسانية مريرة!؟: ثم أفقت من تأملاتي على صراخ طفلة؛ فأسرعت إلى مصدر الصوت بتلقائية طبيب الأطفال؛ الذي يفسر أي صراخ بأنه معاناة أو شكوى تستلزم التدخل؛ فاقتربت منها؛ علني أغيثها، ولكنها هدأت وسكتت؛ حيث شاهدتها تسير وراء أحد الرجال، وهي تمسك بتلابيبه، ثم غابت عني في الزحام؛ فانصرفت وعدت لمشاهداتي!؟. وفجأة علا الصراخ ثانية؛ فعلمت من الناس أنها طفلة تائهة ضلت طريقها وراء رجل حسبته والدها، ولكنها اكتشفت أنه ليس والدها؛ فعادت للصراخ؛ فذهبت إلى مكان الصراخ، حيث التف حولها كوكبة من زوار المولد، من كل الفئات والأطياف؛ حتى من الأجانب، وكلٌ يعرض حلوله،ثم اتفقوا على أن يسلموها لأحد رجال الأمن المتواجدين في المولد!؟. وجاء رجل الأمن الغاضب دوماً، والعصبي غالباً والناقم كثيراً؛ فجذب الطفلة من يدها، وانصرف بها؛ وهو يلعن الآباء والأمهات الذين يتغافلون عن أبنائهم؛ فتزيد مشاكله!؟. الطفلة الضالة ... حالة اجتماعية وسياسية ذكية!؟: وهنا وجدت ضالتي من هذا المولد والطفلة التائهة والضالة؛ فقد ازدحمت رأسي بفيض من الأفكار، وتصارعت في نفسي حزم من المشاعر المتناقضة؛ فاكتشفت أن هذه الطفلة ليست حالة إنسانية فقط؛ بل تمثل حالة اجتماعية وسياسية وعالمية نعاني منها جميعاً، وتطاردنا صورها؛ فنراها ليل نهار؟!. وتأملت حالتها، وتخيلت بعض السيناريوهات التي من الممكن حدوثها لهذه الطفلة المسكينة: 1-لقد غفل عنها والداها وأهلوها؛ فالمسؤولية أولاً وأخيراً يتحملونها لأنهم فرطوا فيها؛ سواء بانفلات يديها منهم، أو بعدم مراقبتهم لها، وتركها لتضيع في الزحام!. 2-أليس من المتوقع أن تختطف لتلعب بها الأيدي الآثمة؛ فتنتهك حرمتها، وتلوث سمعة أهلها؟!. 3-ومن المتوقع أيضاً أن تتلقفها أيدي عصابات الشوارع فتجندها للسرقة أو تنضم لجيوش التسول المنظم والممنهج؛ والذي تراها عيون الأمن وتتغافل عنها؛ لانشغالها بأمن النظام!؟. 4-لقد كان من ضمن الأخطار المتوقعة؛ أن تختطفها مافيا المتاجرة بالبشر وبأعضاء البشر، والتي يهيمن عليها مجموعات خاصة من علية القوم؛ المقربين من السلطة ودوائر صناعة القرار والقوانين، وفي مستشفياتهم الاستثمارية، والتي لا ترعوي في تشريح أي مواطن من أجل البترودولارات والبترودينارات!؟. 5-ومن الأخطار أيضاً؛ التي عرفها عصر غياب سلطة الدولة وزوال هيبتها؛ أن تتلقفها أيدي التبشير ويحتجزونها مع أخواتها في معاقلهم التي لا يستطيع الأمن الوصول إليها؛ بل وقد عرفنا أن الأمن يتغافل عنها، حتى هدد أحد أبرز رموزها منذ أيام بالاستشهاد إذا حاول أحد الاقتراب من امبراطوريتهم التي لا تعترف بالدولة ولا بسلطة الدولة ولا بأمن الدولة ولا بنظام الدولة، ولا بقوانين الدولة!؟. 6-أما ما أحزنني هو سلوك الطفلة؛ التي أوقعت نفسها في عدة أخطاء فادحة: الخطأ الأول: أنها سمحت لنفسها أن تفلت يديها من والديها؛ ألم تعلم أن بديل الأمان والحب؛ هو الضياع والخوف والمجهول المرعب؟. الخطأ الثاني: هو أنها انشغلت ببريق المولد وحلوى المولد وألعاب المولد الكبير عن والديها؛ عن مصدر الأمن والحب!؟. الخطأ الثالث: أنها لم تتردد في السير في ركاب هذا الرجل الغريب؛ الذي حسبته والدها؛ فهل هي من البراءة والسذاجة أن تسير خلف أي رجل؛ حتى وإن لم تتبين ملامحه جيداً؛ هل مجرد رجل والسلام!؟. فتذكرت حال أمتنا في عملية التغيير؛ وهو أي تغيير بأي شخصية وبأي أفكار وبأي صفة (وخلاص)!؟. 7-أما الحل الذي ارتضاه الجميع أو تعودوا عليه في كل مرة؛ هو أنهم رضوا أو استدعوا الأمن ليتدخل ولينقذ الموقف؛ أو لينقذهم من ورطتهم التي كشفت عجزهم في حل أزمتهم؛ حتى ولو كانت طفلة!؟. لهذا لا نستغرب أن يكون محور أمتنا وأعظم دعائمها واللاعب الوحيد على مسرح الأحداث والمشاكل والأزمات بل والحكم والسيطرة؛ هو الأمن!؟. 8-أما الذي يؤلم هو موقف المتفرجين السلبيين؛ فلماذا لم يتطوع أحدهم ويصنع شيئاً إيجابياً؛ ولو حتى بأن يصيح في ميكروفونات المولد الكثيرة والمنتشرة في كل مكان فينادي على والديها؟. ولماذا نرى هذا المشهد الجماهيري الذي تستهويه مشاهدة الأحداث والانشغال بمشاكل الغير؛ سواء حادث طريق، أو سقوط منزل، أو وقفات احتجاجية؛ فتراهم يقفون ويتزاحمون للفرجة، ولا يجرؤ أحدهم بأي عمل إيجابي؛ بل وقد يعطلون فرق المختصين بحل أي مشكلة سواء إسعاف أو مطافي، ويستمتعون بمشاهدة المحتجين من بعيد وبمجرد النظرات التائهة الخجولة ومصمصة الشفاة الجافة من الجوع والعطش والخوف!؟. من هي طفلتنا الضالة؟!: ثم انتقلت بي خواطري حول طفلتنا الضالة؛ فتذكرت طفلتنا الكبيرة الضالة؛ التي تاهت في مولد السياسة، والهيبة، والقوة الناعمة، ومولد العولمة، وحدث لها ما حدث لطفلة المولد؛ وتكاد تنطبق عليها كل أحداثها وتفاصيلها؛ بل وبكل سيناريوهاتها!؟. إنها يا أحبابي ... مصرنا المحروسة!؟. تلك هي هموم هذا الحالم المسكين: د. حمدي شعيب