إن ما يحدث فى مصر الآن من أحداث سياسية مُتشابكة ومُتشعّبة ليُذكّرنى بما تحدثت عنه كونداليزا رايس من محاولة إيجاد ماأسمته ب"الفوضى الخلاقة" فى الشرق الأوسط ، وهو مابدأ بالفعل مع ماعُرف ب"ثورات الربيع العربى" ، تلك الثورات التى خرجت تحت شعارات جذابة تتحدث عن الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية وبعضها تحت مُسمّى الشريعة ولكنها فى الواقع أدت إلى إنهيار جميع البلاد التى حدثت فيها هذه الثورات ، وما تبقى من هذه البلاد بلا خراب ولادمار يأتى عليه الدور فى الوقت الحالى ليتعرض للتخريب والتدمير ، لعل البعض يرى أن مصر أفلتت من هذا المخطط بعد أن إنتهت أحداث يناير فى 18 يوم فقط إلا أن من توقع أو رأى ذلك كان ضعيف النظر السياسى ، فمصر لايمكن تدميرها فى ضربة واحدة ولكن الهدف إحداث الفوضى فيها بشكل مستمر حتى يتم تدميرها تلقائيا بواسطة أبناءها الذين أغرتهم الشعارات الجذابة ذات الظاهر المعسول والباطن القتول ، ولعل ذلك الهدف تحقق على مدار عامين ونصف بعد الثورة خلال فترة حكم المجلس العسكرى والدكتور مرسى من خلال المظاهرات والإعتصامات والإضرابات والمطالب الفئوية المستمرة دون الإقتراب منها أو إنهاءها بداعى شعارات الحرية وحقوق الإنسان ، ولكن مع أحداث 30 يونيو وعزل الدكتور محمد مرسى بات من الواضح عدم القبول بأى مظاهرات أو إعتصامات جديدة من شأنها إحداث الفوضى الخلاقة ، وبالتالى كان لابد من محاولة إحداث الفوضى من جديد ، ولعل ذلك كان واضحا من تضارب الموقف الأمريكى الرسمى بين كيرى وماكين ، وبالتأكيد فإن هذا التضارب ليس من قبيل المُصادفة وإنما هو من باب إعطاء الدعم لكلا الطرفين وتركهما يعبثان مع بعضهما البعض وهو ماسيؤدى حتما إلى الفوضى الخلاقة ، إلا أن أحداث رابعة والنهضة وماتلاها من أحداث كرداسة وناهيا وسيناء أكدت على أن السلطة الحاكمة إستولت على الأمور بشكل كامل وأن طرفى النزاع أصبحا غير متساويين على مستوى القوة والتحكم فى الشارع السياسى ، ولذلك كان لابد من الزجّ بطرف قوى على نفس قوة الطرف الحاكم ليصبح طرفا النزاع متساويين ويقتتل الطرفان على هدفهما وبهذا تحدث الفوضى الخلاقة ، ولهذا ظهر سامى عنان الفريق المتقاعد فى هذا الوقت الغريب ليكتب مذكراته عن ثورة يناير- على خلاف المعهود من أن المذكرات تُكتب بعد مرور عقود من السنين على الأحداث- ويطلب من جبهة الإنقاذ دعمه فى إنتخابات الرئاسة القادمة ، وبالطبع فإن ذلك سوف يُغضب السلطة الحاكمة تحديدا السيسى الذى يسعى إلى النزول فى إنتخابات الرئاسة القادمة ، وبالتالى بدأ الحديث عن محاكمة عنان عسكريا بتهمة تسريب معلومات عسكرية والحديث عن المة المالية لعنان على غير المعهود للقادة العسكريين ، وكان الرد سريعا من عنان بتسريب فيديوهات سرية للسيسى فى إجتماعاته الخاصة لشبكة رصد وهو مايُنبىء عن تساوى كافتى النزاع بين عسكرى "السيسى" وعسكرى آخر "عنان" مع مدنى "الإخوان" ، وكذلك عدم الكشف عن جميع الفيديوهات والإكتفاء بإذاعة مايقل عن النصف ساعة منها للضغط بالباقى لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة ل"عنان" و "الإخوان" ، كل ذلك بالتزامن مع إنسحاب البرادعى من منصبه كنائب للرئيس ثم مهاجمته للطرف الحاكم ووصفه بالفاشية ، ومعروف ماللبرادعى من شعبية جارفة لاسيما عند الليبراليين المناصرين حاليا للسيسى من الممكن أن تجعلهم ينضمون إلى الفئة المعارضة للحاكم. كل هذا المشهد المتشابك يؤكد على أن مصر لم تنجُ بعد من خطة الفوضى الخلاقة التى تسعى الولاياتالمتحدة إلى نشرها فى الشرق الأوسط بأكمله لاسيما فى مصر البلد الوحيد حتى الآن فى الوطن العربى التى تمتلك جيشا قويا من شأنه تهديد أمن إسرائيل وإحباط مخطط دولتها "من النيل إلى الفرات". فى النهاية ليس بأيدينا إلا الدعاء لهذا البلد بأن يحفظه الله وأ يجعله دائما وأبدا أمنا أمانا سخاءا رخاءا وسائر بلاد المسلمين.