حين ألقت كوندوليزا رايس بنظريتها العظيمة الملقبة بنظرية «الفوضى الخلاقة»، كان ذلك عقب الحرب العراقية التي التهمت الاقتصاد العراقي ولمدة خمسين سنة قادمة. كان ينتظر لنظرية «الفوضى الخلاقة» أن تعمل عملها بتناحر جماعتين أو أكثر داخل كل دولة من دول الربيع العربية، هاتان القوتان من المفترض أن تمثلا في طرفها الأول الدولة «العسكرية والأمنية» الكبيرة والقديمة، وفي طرفها الثاني مجموعة الراديكاليين والشباب والقوى الثورية المختلفة ومن ضمنها مجموعات المصالح الدينية، ولم يكن ينتظر على الإطلاق أن تطفو هذه الجماعات الدينية المنظمة إلى سطح السلطة بهذه الطريقة في كل من تونس ومصر وسوريا وليبيا، كان الأمر يبدو هادئا في البداية فقد انتصر شباب الثورة، وفجأة ودون سابق إنذار تدخل الجماعات الدينية لتقطف ثمار الثورة في كل من مصر وتونس على وجه التحديد، ففي تونس تدخل جماعة النهضة «الإخوان المسلمين» لتأخذ نصيب الأسد من تورتة السلطة، وفي مصر تحصل «الحرية والعدالة» على التورتة كلها، في تونس كان الدستور ثم الانتخابات وسارت الأمور كما يفترض لها أن تكون، وفي مصر كانت انتخابات البرلمان ثم الرئاسة ثم الدستور، وكان السبب في كل هذه اللخبطة المجلس العسكري، ويظن أن شيوخ هذا المجلس كانوا واقعين تحت ضغوط شديدة من الولاياتالمتحدة ومن الجماعة الإسلامية أيضا، وبتسريبات محددة إلى الشارع، قال الإخوان: «نحن أو الفوضى»، «نحن أو احتراق مصر»، لم يكن الفريق السيسي قد ظهر في الصورة على الإطلاق حتى هذه اللحظة. كانت نظرية «الفوضى الخلاقة» تتهادى على مهل، تتخذ طريقها إلى التحقق وفق ما أملت فيه كوندوليزا رايس، وكانت الولاياتالمتحدة تعمل جاهدة على تحقيق هذه النظرية لاعتبارات تتعلق بأمن إسرائيل، وباستمرار تسليح الجيوش العربية بالسلاح الأمريكي الذي سيتم تجديده مرة أخرى بعد تدميره، وبظهور حليف ديني يتسم ببعض الحرية والقدرة على التعامل مع الإدارة الأمريكية، بالإضافة إلى أنه سيحقق أمن إسرائيل بل سيعيد لليهود ما يحتمل أنه قد سلب منهم عندما غادروا مصر، إضافة إلى أنهم قدموا أنفسهم كحليف للولايات المتحدوة بديلا عن الحليف العسكري القديم الذي بدأ تكوينه مع ظهور أنور السادات كحاكم لمصر. نجحت تونس على مضض فيما فشلت الحرية والعدالة في تقديم أي سند يثبت للشعب المصري أنهم ناجحون في إدارة البلد، ومع تنامي الرفض، كان لابد أن نعود للمربع صفر، الدستور أولا والبرلمان ثانيا ثم الرئيس، وسقطت نظرية الفوضى الخلاقة سقوطا مروعا، وما زال بعض اللاعبين الأساسيين الرئيس الأمريكي أوباما ووزير دفاعه والسفيرة الأمريكية بالقاهرة يصرون على تطبيق النظرية. آتي لعنوان المقال، ما الذي دفع الفريق السيسي لأن يقول لا؟ بعد أن خرج الشعب المصري مع نهاية آخر يوم في عمر السنة الأولى للرئيس المعزول ليرفض استمراره يوما واحدا في حكم مصر، كان الإخوان يحاولون سريعا تدمير الروح المصرية المتعلقة بالهوية الوطنية، والقومية المصرية، والدولة المدنية، وتغيير هوية المجتمع المصري لصالح الجماعة الدولية للإخوان وليس لصالح المصريين، هذا هو ما يجب أن يفهمه الجميع، الهوية المصرية كانت الخط الأحمر الأخير، ولو كان الفريق السيسي باحثا عن مكاسب فإنه قد حصل في الدستور الجديد على كل المكاسب التي يتمناها أي جيش في العالم، ولكن هوية كمصر وقلبها الصلب وقلبها التقليدي كانا معرضين للدمار في أي لحظة، يعلم الفريق السيسي أنه يواجه أخطارا عدة، ولكنه في هذه الأخطار بحث عن الشعب، ولم يبحث عن طرف آخر، ومن احتمى بشعبه واحتمى شعبه به، هو الوحيد الكاسب لأي رهان وللحديث بقية!