يقول تعالى: "هذا يوم عصيب" أي شديد وتقصد العرب بعصبة الرجل قرابته الذين يمنعونه والتعصب من العصبية وهي الدعوة إلى نصرة العصبة والذود عنها واليوم حين يطلق الناس هذا المصطلح يقصدون به التمسك بالرأي والانتصار للقول الضيق لفئة أو جماعة أو قبيلة أو مذهب دون الحق. يعرِّف علم النفس الحديث التعصب بأنه "اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك موضوعاً معيناً أو فرداً آخر غيره أو جماعة من الناس أو طائفة أو مذهباً (إدراكاً إيجابياَ محباً) أو (إدراكاً سلبياً كارهاً) دون أن يكون لطبيعة هذا الإدراك بجانبيه ما يبرره من المنطق أو الأحداث أو الخبرات الواقعية". روى أبو داوود عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام قال: "ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل عصبية، وليس منا من مات على عصبية".يظهر التعصب اليوم مرتدياً أقنعة مختلفة فتارة يدعى بالثقة وأخرى الاعتزاز بالدين ومرة الثبات على المنهج وعلى الرغم من حسن هذه الخصال إلا أنها تستغل ممزوجة مع العاطفة الشديدة للتستر على التعصب. للتعصب أشكال متعددة فنجد التعصب المذهبي والفكري والحزبي والطائفي والكروي والقبلي والعنصري والديني والسياسي. تجلت في الربيع العربي صورة التعصب للنفوذ والقوة والسلطة. حينما تهيمن الجماعة أو الحزب أو الطائفة على عقل المرء وتتلبسه فتقوده على عمىً وتجعله بوقاً يزور من أجلها التاريخ ويشتم المنطق ويلوي عنق الدين ويقذف ألفاظ التبديع والتفسيق والتضليل والتخوين وكل ما يجود به جوفه من قيح وسموم على مخالفه. لا يقف الأمر عند هذا بل يزين لصاحبه ممارسة العنف والقتل بدم بارد. ولنا في الحروب الأهلية خير مثال ففي لبنان كان القتل من أجل الهوية وفي الربيع العربي نجد العسكري يفتح النار على أهله وعشيرته. ولنفهم خطورته أكثر يجب أن نتلمس آثاره فبالإضافة للعدوان يولد في صاحبه جموداً وبلادة في الفكر. يلجأ المتعصب للتعميم فالحياة عنده حديةً إما سوداء أو بيضاء وإن لم تكن معي فأنت ضدي. يقول د.بكار: " المحاباة والتحامل صفتان أساسيتان لدى الإنسان المتعصّب، وهاتان الصفتان توجدان خللاً كبيراً في الشخصية، ولهذا فإن المتعصّب يكون في الغالب محروماً من التوازن العقلي والانفعالي الذي يتمتع به الأسوياء". يرى عالم النفس العربي الدكتور مصطفى زيور أن التعصب "ظاهرة اجتماعية لها بواعثها النفسية". لكشف أسباب التعصب يجدر أن تقوم دراسات اجتماعية مستفيضة تستوعب المتعصب وبيئات التعصب ودوافعه. إن النظرة للآخر أياً كان على أنه أحط هي نظرة طفولية حيث يظن الطفل أن والده هو الأعظم في الكون وهناك جدل حول جبلّية التعصب. يصاحب التعصب عاطفة جياشة تغطي على العقل وتسوقه وقد يكون مصدرها ذات الفرد أو مجتمعه. إن الغرائز والحاجات الإنسانية توقد عاطفة تتعاظم حتى يصعب احتواؤها. التجوع للطعام والجنس والسلطة دوافع جوهرية. كما أن الخلل في التركيبة الشخصية عامل آخر. التفكير عملية شاقة تتطلب مسؤولية ثقيلة لذا تميل النفس إلى تعليق هذا الهم على الآخرين فالجهل لا يكلف شيئاً ولن يتكلف سوى الإيمان الأعمى المتعصب. إن الرفاق والدائرة المحيطة بالشخص قد تدفعه دفعاً نحو التعصب كما أن الأفكار الشائعة والشهيرة يصعب مخالفتها فيلجأ الناس طوعاً أو كرها إلى تصديقها والدعوة إليها. ومما يزيد الأمر سوءاً شيوع الأفكار المتعصبة والعنصرية بشكل أسرع وأوسع خاصةً في المجتمعات المنهزمة. يقول د.فؤاد زكريا إن البشرية عاشت في ظل التعصب أطول بكثير مما عاشته في ظل الأفكار الموضوعية. التنشئة تؤثر تأثيراً بالغاً في الميل للتعصب فالنظرة الدونية لأصحاب المهن اليدوية يكتسبها الطفل في سن مبكرة من أبويه. إن للتعصب لذةً في نفس صاحبه حيث يجعله يفرغ طاقته المحبوسة فهو نوع من الغضب. إن فرط ثقة المتعصب بنفسه واحتكاره للحق تعتبر في الديناميكية البشرية صفات جاذبة لذا تسلك الدهماء في هذا سلوك المرأة في ميلها نحو الرجل القوي الشديد. السلوك البشري يظهر أن التفكير والتغيير يسببان قلقاً ويكشفان خبايا وسوءاتٍ فلا يقدر عليهما كل أحد. ولذا اعتبر الفرنسي جاك لوغوف التعصب هو الموقف الطبيعي للإنسان وليس التسامح. قال عز وجل " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم". بعد أن تعرفنا على خطورة التعصب وآثاره المدمرة وأسبابه يجب أن نعرف كيف يمكن الحد منه. إن تنشئة الطفل على فهم قصور عقله البشري ومحدودية أفكاره وأن الحق لا يحتكره أحد تمنعه من تضخيم ذاته وتمنحه تواضع الراسخين في العلم، كما أن زرع أفكار التسامح والانفتاح في السنين المبكرة سيشفي كثيراً من هذا الداء. كثير من التعصب الديني اليوم جاء بسبب قلة الفقه وتحميل النصوص ما لا تحتمل، بالرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم نصح الأمير بقوله: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا". العلم وسعة الاطلاع كما أنه يقي من التعصب الديني فهو يقي أيضاً من كل أشكال التعصب الأخرى. وأختم بذكر أمثلة تاريخية ومعاصرة للتعصب. أورد د.عادل مطيرات في بحثه أنه حكي عن بعض المتعصبين من الشافعية حين سئل عن حكم الطعام الذي وقعت عليه قطرة نبيذ قال: يرمى لكلب أو حنفي! وذكر أن بعضهم كسر سبابة مصل لرفعه إياها في التشهد، فلما سئل عن السبب قال: لأنه فعل فعلا محرما وهو تحريك أصبعه في التشهد، ولما سئل عن دليل هذا التحريم قال: الدليل ما هو مدون في كتاب الفقه للشيخ الكيداني. أما اليوم فإننا نرى ما أحدثه التعصب من تكفير وتخريب وإراقة لدماء الأبرياء. باسم الدين اعتزل المتعصبون الناس ووصموهم بالجاهلية ونزحوا إلى الكهوف وأعماق الجبال ثم فجروا السفارات والعمارات والقطارات فلم يجنوا سوى التنفير والتشويه. ولعل الربيع العربي عدل المفاهيم وصوب الأهداف ووسع الآمال.